@ 235 @ ليتعبدهم بالتكليف ، وركب فيهم العقول والشهوات ، وأزاح العلة في أقدارهم وتمكينهم ، وهداهم النجدين ، ووضع في أيديهم زمام الاختيار ، وأراد منهم الخير والتقوى ، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم ، وهم مختارون بين الطاعة ، والعصيان ، كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل ، انتهى كلامه . وهو مبني على مذهبه الاعتزالي من أن العبد مختار ، وأنه لا يريد الله منه إلا فعل الخير ، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين . والذي يظهر ترجيحه أن يكون : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } متعلقاً بقوله : { اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } . فالذي نودوا لأجله هو الأمر بالعبادة ، فناسب أن يتعلق بها ذلك وأتى بالموصول وصلته على سبيل التوضيح أو المدح للذي تعلقت به العبادة ، فلم يجأ بالموصول ليحدث عنه بل جاء في ضمن المقصود بالعبادة . وأما صلته فلم يجأ بها لإسناد مقصود لذاته ، إنما جيء بها لتتميم ما قبلها . وإذا كان كذلك فكونها لم يجأ بها لإسناد يقتضي أن لا يهتم بها فيتعلق بها ترج أو غيره ، بخلاف قوله : اعبدوا ، فإنها الجملة المفتتح بها أولاً والمطلوبة من المخاطبين . وإذا تعلق بقوله : اعبدوا ، كان ذلك موافقاً ، إذ قوله : اعبدوا خطاب ، ولعلكم تتقون خطاب . .
ولما اختار الزمخشري تعلقه بالخلق قال : فإن قلت كما خلق المخاطبين لعلهم يتقون ، فكذلك خلق الذين من قبهلم ، لذلك قصره عليهم دون من قبلهم ، قلت : لم يقصره عليهم ولكن غلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعاً ، انتهى كلامه . وقد تقدم ترجيح تعلقه بقوله : اعبدوا ، فيسقط هذا السؤال . وقال المهدوي : لعل متصلة باعبدوا لا بخلقكم ، لأن من ذرأه الله عز وجل لجهنم لم يخلقه ليتقي . والمعنى عند سيبويه : افعلوا ذلك على الرجاء والطمع أن تتقوا ، انتهى كلامه . ولما جعل الزمخشري لعلكم تتقون متعلقاً بالخلق قال : فإن قلت : فهلا قيل : تعبدون لأجل اعبدوا أو اتقوا المكان تتقون ليتجاوب طرفا النظم ؟ قلت : ليست التقوى غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النظم ، وإنما التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده ، فإذا قال : { اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ } للاستيلاء على أقصى غايات العبادة كان أبعث على العبادة وأشد إلزاماً لها وأثبت لها في النفوس ، انتهى كلامه . وهو مبني على مذهبه في أن الخلق كان لأجل التقوى ، وقد تقدم ذلك . وأما قوله : ليتجاوب طرفا النظم فليس بشيء لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم لأنه يصير المعنى : اعبدوا ربكم لعلكم تتقون ، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون ، وهذا بعيد في المعنى ، إذ هو مثل : اضرب زيداً لعلك تضربه ، واقصد خالداً لعلك تقصده . ولا يخفى ما في هذا من غثاثة اللفظ وفساد المعنى ، والقرآن متنزه عن ذلك . والذي جاء به القرآن هو في غاية الفصاحة ، إذ المعنى أنهم أمروا بالعبادة على رجائهم عند حصولها حصول التقوى لهم ، لأن التقوى مصدر اتقى ، واتقى معناه اتخاذ الوقاية من عذاب الله ، وهذا مرجو حصوله عند حصول العبادة . فعلى هذا ، العبادة ليست نفس التقوى ، لأن الاتقاء هو الاحتراز عن المضار ، والعبادة فعل المأمور به ، وفعل المأمور به ليس نفس الاحتراز بل يوجب الاحتراز ، فكأنه قال : اعبدوه فتحترزوا عن عقابه ، فإن أطلق على نفس الفعل اتقاء فهو مجاز ، ومفعول يتقون محذوف . قال ابن عباس : الشرك ، وقال الضحاك : النار ، أو معناه تطيعون ، قاله مجاهد :