@ 132 @ وقدّر { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } لمّا قدم أنه تعالى هو الذي يميز الخبيث من الطيب وليس لهم تمييز ذلك ، أخبر أنه لا يطلع أحداً من المخاطبين على الغيب . .
{ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى } أي : يختار ويصطفي { مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء } فيطلعه على ما شاء من المغيبات . فوقوع لكنَّ هنا لكون ما بعدها ضداً لما قبلها في المعنى . إذ تضمن اجتباء من شاء من رسله اطلاعه إياه على ما أراد تعالى من علم الغيب ، فاطلاع الرسول على الغيب هو باطلاع الله تعالى بوحي إليه ، فيخبر بأنَّ في الغيب كذا من نفاق هذا وإخلاص هذا فهو عالم بذلك من جهة الوحي ، لا من جهة اطلاعه نفسه من غير واسطة وحي على المغيبات . قال السدي وغيره : ليطلعكم على الغيب ، فيمن يؤمن ، ومن يبقى كافراً ، ولكنَّ هذا رسول مجتبي . وقال مجاهد وابن جريج وغيره : هي في أمر أحدٍ أي : ليطلعكم على أنكم تهزمون ، أو تكفون عن القتال . وقيل : ليطلعكم على المنافقين تصريحاً بهم ، وتسمية بأعيانهم ، ولكنْ بقرائن أفعالهم وأقوالهم . والغيب هنا ما غاب عن البشر مما هو في علم الله تعالى من الحوادث التي تحدث ، ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين ، ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس . وقال الزجاج وغيره : روي أن بعض الكفار قال : لم لا يكون جميعنا أنبياء ؟ فنزلت . وقيل : قالوا : لِم لمْ يوحَ إلينا في أمر محمد ؟ فنزلت . وقيل : قالوا : نحن أكثر أموالاً وأولاداً فهلا كان الوحي إلينا ، فنزلت . وقيل : كانت الشياطين يصعدون إلى السماء فيسترقون السمع ، فيأتون بأخبارها إلى الكهنة قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، فأنزلها الله بعد بعثته . ولكن الله يصطفي من يشاء فيجعله رسولاً فيوحي إليه ، أي : ليس الوحي من السماء لغير الأنبياء . وظاهر الآية هو ما قدّمناه من أنه تعالى هو الذي يميز بين الخبيث والطيب ، أخبر أنكم لا تدركون أنتم ذلك ، لأنه تعالى لم يطلعكم على ما أكنته القلوب من الإيمان والنفاق ، ولكنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على ذلك ، فتطلعون عليه من جهة الرسول بأخباره لكم عن ذلك بوحي الله . وهذا معنى ما روي أيضاً عن السدي أنه قال : حكم بأنه يظهر هذا التمييز . ثم بيّن بهذه الآية أنه لا يجوز أن يجعل هذا التمييز في عوام الناس بأن يطلعهم على غيبة فيقولون : إنَّ فلاناً منافق ، وفلاناً مؤمن . بل سنة الله تعالى جارية بأنْ لا يطلع عوام الناس ، ولا سبيل لهم إلى معرفة ذلك إلا بالامتحان . فأمّا معرفة ذلك على سبيل الاطلاع على الغيب فهو من خواص الأنبياء ، ولهذا قال تعالى : ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ، فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن وهذا منافق . وهذه الأقوال كلها والتفاسير مشعرة بأنَّ هذا الغيب الذي نفى الله اطلاع الناس عليه راجع إلى أحوال المؤمنين والمنافقين ، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل العموم . أي : ما كان الله ليجعلكم كلكم عالمين بالمغيبات من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عنه ، بل الله يخص من يشاء من عباده بذلك وهو الرسول ، فتندرج أحوال المنافق والمؤمن في هذا العام . .
{ مَّا كَانَ اللَّهُ } لما ذكر أنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على المغيبات ، أمر بالتصديق بالمجتبى ، والمجتبي ومن يشاء هو محمد صلى الله عليه وسلم ) ، إذ ثبتت نبوته باطلاع الله إياه على المغيبات ، وأخباره لكم بها في غير ما موطن . وجمع في قوله ورسله تنبيهاً على أنّ طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحدة ، وهو ظهور المعجز على أيديهم . قال الزمخشري في قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسله ، بأن تقدروه حق قدره ، وتعلمونه وحده مطلعاً على الغيوب ، وأن ينزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عباداً مجتبين لا