وإِنَّما رجا شكر العباد لأنَّه تقرَّر أنَّ ألسنة الخلق أَقلام الحقّ ولقوله صلّى الله عليه وسلّم " منْ أَثْنَيْتُمْ عليه خَيْراً وَجَبَتْ " وليس المراد به شكر العباد لحظّ نفسه ولتكون له مكانةٌ عندهم إذْ مثل هذا يطلب الدُّعاء للتنصُّل منه والتَّجرُّد عنه وجزيل الأَجرِ في الآخرة هو الفوز بالجنَّة أَو التنعُّم بالنظر إلى الوجه الكريم وحصول الرضوان وقد حصل الثناء في الدُّنيا كما فاز بطلبه في الآخرة إن شاء الله تعالى وفيه الالتزام مع التي قبلها والتَّرصيع في أَغلبها ضارِعاً مُتَذَلِّلاً إلى من ينظر أَي يتأَمَّل من عالِمٍ في عَملي هذا أن يَسْتُرَ عِثارِي أَراد به الوقوع في الخطأ وزَللي محرَّكة عطف تفسير لما قبله ويَسُدَّ بالضَّمِّ أَي يصلح بسَدادِ بالفتح أَي استقامة فَضْلِهِ خَلَلِي محرَّكة هو الوهن في الأَمر والتفرُّق في الرَّأي وأَمرٌ مختلٌّ أَي ضعيف وإِنَّما خصَّ العالِم بذلك لأنَّه الذي يميِّز الزلَل ويستر الخَلَل وأمَّا الجاهل فلا عبرة به ولا بنظرِه بل لا نظر لبَصَرِهِ ولذا قيل : إنَّ المراد بالنظر هو التفكُّر والتأمُّل لا مطلق الإمرار ولزيادته وكثرته عدَّاه بفي الظرفيَّة وصيَّر العمل مظروفاً له قاله شيخنا . ثمَّ إنَّ كلامه هذا خرج مَخرَج الاعتذار عمَّا وقع له في هذا المضمار فقد قيل : من صنَّف فقد استهْدَف نفسَه . وقال المؤتمن الساجِي : كانَ الخطيب يقول : من صنَّفَ فقد جعل عَقْلَه على طَبَقٍ يَعْرِضُه على الناس . وفيه الجناس المحرَّف بين مِنْ الجارَّة البيانيَّة ومَنْ الموصولة المبنية بها والمقلوب في عالم وعمل والاشتقاق في يسدّ وبسداد والتزام ما لا يلزم وفي الفقرتين الأَخيرتين الجناس اللاحق والمقابلة المعنوية للستر والعثار والزلل والسداد والخلل وبعد أَن ينظر فيه مع التأمُّل والمراجعة عليه أن يُصْلِحَ ما طَغَى أَي تجاوز القدْرَ المُراد به القلمُ ونسبته إليه من المجاز العقليّ فالمراد بالاصلاح إزالة ما فسد في الكتاب بالتنبيه عليه وإظهاره مع إيضاح العذر للمصنف من غير إظهار شناعةٍ ولا حطٍّ من منصبه ولا إزراءٍ بمقامه وكون الأولى في ذلك إصلاح عبارة بغيرها أو إبقاء كلام المصنف والتنبيه على ما وقع فيه في الحاشية إذْ لعلَّ الخطأ في الإصلاح وفي ذلك قيل : .
وكَمْ من عائبٍ قَوْلاً صَحيحاً ... وآفتُه مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ وزَاغَ عنه أَي مالَ أَو كَلَّ البَصَرُ وقَصَرَ كقَعَدَ عنه الفَهْمُ أَي عجز عن إدراك المطلوب فلم ينله الفَهْم : تصوُّر المعنى من اللفظ أَو سرعة انتقال النفس من الأُمور الخارجيَّة لغيرها وغَفَلَ عنه الخاطِر أَي تركه إهمالاً وسهواً وإعراضاً عنه والغفلة : غيبوبةُ الشَّيْءِ عن بال الإنسان وعدم تذكُّره وسيأْتي والخاطر : الهاجس وما يخطر في قلب الإنسان من خير وشرّ فالإنسانُ وفي نسخة البدر القرافي : فإنَّ الإنسان أَي من حيث هو محلُّ النِّسْيان أَي مَظنَّة لوقوعِه وصُدور الغفلة منه ولو تحرَّى ما عسى ولذلك ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم " رُفع عَنْ أُمَّتِي الخطأُ والنِّسْيان " ولذا قيل : .
ومَا سُمِّيَ الإنْسانُ إِلاَّ لنَسْيِهِ ... ومَا القَلْبُ إِلاَّ أَنَّه يَتَقَلَّبُ ولذلك اعتنى الأَئمَّة بالتقييد لمَا حفِظوا وسمعوا ومثَّلوا الحِكمَةَ كالصَّيْد والضالَّة وربْطُها : تَقْييدُها ثمَّ أَقام على كلامه حُجَّة فقال : وإِنَّ أَوَّل ناسٍ أَي أَوَّل من اتَّصف بالنسيان والغفلة عمَّا كانَ هو أَوَّل النَّاس خلقه الله تعالى وهو سيِّدنا آدم E فلا يلام غيره على النسيان وعلى الله لا على غيره جلَّ شأْنه التُّكْلان بالضَّمِّ مصدر وتاؤه عن واو لأنَّه من التوكُّل وهو إظهار العجز والاعتماد على الغير والمعنى لا اعتماد ولا افتقار إِلاَّ إلى الله سبحانه وتعالى وهو الغنيّ المطلق لا إله إِلاَّ هو ولا ربَّ غيرُه ولا خَيْر إِلاَّ خَيْرُه وصلى الله على سيِّدنا محمد وعلى آله وسلم .
باب الهمزة .
فصل الهمزة .
أ ب أ