فعاندوه فلا معنى ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخرة بلا سبب قالوا فلما بطل هذا صح أن كل طائفة إنما تتبع إما ما نشأت عليه وإما ما يخيل لأحدهم أنه الحق دون تثبيت ولا يقين قالوا وهذا مشاهد من أهل كل ملة وإن كان فيها ما لا شك في سخافته وبطلانه وقالوا أيضا أنا نرى الجماعة الكثيرة قد طلبوا علم الفلسفة وتبحروا ووسموا أنفسهم بالوقوف على الحقائق وبالخروج عن جملة العامة وبأنهم قد أشرفوا على الصحيح بالبراهين وميزو من الشغب والإقناع ونجد آخرين قد تمهروا في علم الكلام وافنوا فيه دهرهم ورسخوا فيه وفخروا بأنهم قد وقفوا على الدلايل الصحاح وميزوها من الفاسدة وأنهم قد لاح لهم الفرق بين الحق والباطل والحجج والإنصاف ثم نجدهم كلهم يعني جمع هاتين الطائفتين فلسفتهم وكلامهم في أديانهم التي يقرون أنها نجاتهم أو هلكتهم مختلفين كاختلاف العامة وأهل الجهل بل أشد اختلافا فمن يهودي يموت على يهوديته ونصراني يتهالك عل نصرانيته وتثليثه ومجوسي يستميت على مجوسيته ومسلم يستقتل في إسلامه ومنافي يستهلك في مانونيته ودهري ينقطع في دهريته قد استوى العامي المقلد من كل طائفة في ذلك مع المتكلم الماهر المستدل بزعمه ثم نجد أهل هذه الأديان في فرقهم أيضا كذلك سواء سواء فإن كان يهوديا فأما رباني يتقد غيظا على سائر فرق دينه وأما صائبي يلعن سائر فرق دينه وأما عيسوي يسخر من سائر فرق دينه وأما سامري يبرا من سائر فرق دينه وأن كان نصرانيا فأما ملكي يتهالك غيظا على سائر فرق دينه وأما نسطوري يقداسنا على سائر فرق دينه وأما يعقوبي يسخط على سائر فرق دينه وإن كان مسلما فإما خارجي يستحل دماء سائر أهل ملته وأما معتزلي يكفر سائر فرق ملته واما شيعي لا يتولى سائر فرق ملته وأما مرجئي لا يرضى عن سائر فرق ملته وأما سني ينافر فرق ملته قد استوى في ذلك العامي والمقلد الجاهل والمتكلم بزعمه المستدل وكل امرئ من متكلمي الفرق التي ذكرنا يدعي أنه إنما أخذ ما أخذ وترك ما ترك ببرهان واضح ثم هكذا نجدهم حتى في الفتيا أما حنيفي يجادل عن حنيفيته وأما مالكي يقاتل عن مالكيته وأما شافعي يناضل عن شافعيته وأما حنبلي يضارب عن حنبليته وأما ظاهري يحارب ظاهريته وأما متحير مستدل فهنالك جاء التجازب حتى لا يتفق اثنان منهم على مائة مسألة إلا في الندرة وكل امرئ ممن ذكرنا يزري على الآخرين وكلهم يدعى أنه أشرف على الحقيقة وهكذا القائلون بالدهر أيضا متباينون متنابذون مختلفون فيما بينهم فمن موجب أن العالم لم يزل وأن له فاعلا لم يزل ومن موجب إزالية الفاعل وأشياء أخر معه وأن سائر العالم محدوث ومن موجب إزالية الفاعل وحدوث العالم أمبطل للنبوات كلها كما اختلف سائر أهل النحل أولا فرق قالوا فصح أن جميعهم أما متبع للذي نشأ عليه والنحلة التي تربي عليها وأما متبع لهواه قد تخيل له أنه الحق فهم على ما ذكرنا دون تحقيق قالوا فلو كان للبرهان حقيقة لما اختلفوا فيه هذا الاختلاف ولبان على طول الأيام وكرور الزمان ومرور الدهور وتداول الأجيال له وشدة البحث وكثرة ملاقاة الخصوم ومناظراتهم وأفنائهم الأوقات وتسويدهم القراطيس واستنفاذ وسمعهم وجهدهم أين الحق فيرتفع الأشكال بل الأمر واقف بحسبه أمتزيد في الاختلاف وحدوث التجاذب والفرق قالوا وأيضا فإنا نرى المرء الفهم العالم النبيل المتيقن في علوم الفلسفة والكلام والحجاج المستنفذ لعمره في طلب الحقائق المؤثرة للبحث عن البرهان على كل ما سواه من لذة أو مال أو جاء المستفرغ لقوته في ذلك النافر عن التقليد يعتقد مقالة وما يناظر عنها ويحاجج دونها ويدافع أمامها ويعادي من خالفها مجدا في ذلك موقنا بصوابه وخطا من خالفه منافرا له مضللا أو مكفرا فيبقى كذلك الدهر الطويل