وتناسق التئامها والثناء على الخاطر الذي نظم بديع أبياتها وأطلع من مشرق فكره آياتها فقال السلطان نريد من يجيبه عنا بأبيات على قافيتها فالتفت مسرعا إلي وأنا عن يمينه وقال يا مولانا مملوكك فلان هو فارس هذا الميدان والمعتاد للتخلص من مضايق هذا الشان ثم قطع وصلا من درج كان بين يديه وألقاه إلي وعمد إلى دواته فأدارها بين يدي فقال له السلطان أهكذا على مثل هذا الحال وفي مثل هذا الوقت فقال نعم أنا قد جربته فوجدته متقد الخاطر حاضر الذهن سريع إجابة الفكر فقال السلطان وعلى كل حال قم إلى هنا لتنكف عنك أبصار الناظرين وتنقطع عنك ضوضاء الحاضرين وأشار إلى مكان عن يمين البيت الخشب الذي هو بالجلوس فيه منفرد فقمت وقد فقدت رجلي انخذالا وذهني اختلالا لهيبة المجلس في صدري وكثرة من حضره من المترقبين لي المنتظرين حلول فاقرة الشماتة بي فما هو إلا أن جلست حتى ثاب إلي خاطري وانثال الكلام على سرائري فكنت أتوهم أن فكري كالبازي الصيود لا يرى كلمة إلا أنشب فيها منسره ولا معنى إلا شك فيه ظفره فقلت في أسرع وقت .
( وصلت من الملك المعظم تحفة ... ملأت بفاخر درها الأسلاكا ) .
( أبيات شعر كالنجوم جلالة ... فلذا حكت أوراقها الأفلاكا ) .
( عجبا وقد جاءت كمثل الروض إذ ... لم تذوها بالحر نار ذكاكا ) جلت الهموم عن الفؤاد كمثل ما ... تجلو بغرة وجهك الأحلاكا ) .
( كقميص يوسف إذ شفت يعقوب ريياه ... شفتني مثله رياكا ) .
( قد أعجزت شعراء هذا العصر كلهم ... فلم لا تعجز الأملاكا ) .
( ما كان هذا الفضل يمكن مثله ... أن يحتويه من الأنام سواكا ) .
( لم لا أغيب عن الشآم وهل له ... من حاجة عندي وأنت هناكا ) .
( أم كيف أخشى والبلاد جميعها ... محمية في جاه طعن قناكا ) .
( يكفي الأعادي حر بأسك فيهم ... أضعاف ما يكفي الولي نداكا ) .
( ما زرت مصر لغير ضبط ثغورها ... فلذا صبرت فديت عن رؤياكا ) .
( أم البلاد علا عليها قدرها ... لا سيما مذ شرفت بخطاكا ) .
( طابت وحق لها ولم لا وهي قد ... حوت المعلى في القداح أخاكا ) .
( أنا كالسحاب أزور أرضا ساقيا ... حينا وأمنح غيرها سقياكا ) .
( مكثي جهاد للعدو لأنني ... أغزوه بالرأي السديد دراكا ) .
( لولا الرباط وغيره لقصدت بالسير ... الحثيث إليك نيل رضاكا ) .
( ولئن أتيت إلى الشآم فإنما ... يحتثني شوق إلى لقياكا ) .
( إني لأمنحك المحبة جاهدا ... وهواي فيما تشتهيه هواكا ) .
( فافخر فقد أصبحت بي وببأسك الحامي ... وكل مملك يخشاكا ) .
( لا زلت تقهر من يعادي ملكنا ... أبدا ومن عاداك كان فداكا ) .
( وأعيش أبصر ابنك الباقي أبا ... وتعيش تخدم في السعود أباكا ) .
ثم عدت إلى مكاني وقد بيضتها وحليت بزهرها ساحة القرطاس وروضتها فلما رآني السلطان قد عدت قال لي هل عملت شيئا ظنا منه أن العمل في تلك اللمحة القريبة معجز متعذر وبلوغ الغرض فيها غير متصور فقلت قد أجبت فقال أنشدنا فصمت الناس وحدقت الأبصار واصاخت الأسماع وظن الناس بي الظنون وترقبوا مني ما يكون فما هو إلا أن توالى الإنشاد لأبياتها حتى صفقت الأيدي إعجابا وتغامزت الأعين استغرابا وحين انتهيت إلى ذكر مولانا الملك الكامل بأنه المعلى في البنين إذا ضربت قداحهم وسردت أمداحهم اغرورقت عيناه دمعا لذكره وأبان صمته