أخذت من التفضيل بأوفر نصيب وأما مبانيها فقد سمعت عن إتقانها واهتمام أصحابها بها وكون أكثر ديارها لا تخلو من الماء الجاري والأشجار المتكاثفة كالنارنج والليم والليمون والزنبوع وغير ذلك وأما علماؤها في كل صنف رفيع أو وضيع جدا أو هزلا فأكثر من أن يعدوا وأشهر من أن يذكروا وأما ما فيها من الشعراء والوشاحين والزجالين فما لو قسموا على بر العدوة ضاق بهم والكل ينالون خير رؤسائها ورفدهم وما من جميع ما ذكرت في هذه البلدة الشريفة إلا وقصدي به العبارة عن فضائل جميع الأندلس فما تخلو بلادها من ذلك ولكن جعلت إشبيلية بل الله جعلها أم قراها ومركز فخرها وعلاها إذ هي أكبر مدنها وأعظم أمصارها .
وأما قرطبة فكرسي المملكة في القديم ومركز العلم ومنار التقى ومحل التعظيم والتقديم بها استقرت ملوك الفتح وعظماؤه ثم الملوك المروانية وبها كان يحيى بن يحيى راوية مالك وعبد الملك بن حبيب وقد سمعت من تعظيم أهلها للشريعة ومنافستهم في السؤدد بعلمها وأن ملوكها كانوا يتواضعون لعلمائها ويرفعون أقدارهم ويصدرون عن آرائهم وأنهم كانوا لا يقدمون وزيرا ولا مشاورا ما لم يكن عالما حتى أن الحكم المستنصر لما كره له العلماء شرب الخمر هم بقطع شجرة العنب من الأندلس فقيل له فإنها تعصر من سواها فأمسك عن ذلك وأنهم كانوا لا يقدمون أحدا للفتوى ولا لقبول الشهادة حتى يطول اختباره وتعقد له مجالس المذاكرة ويكون ذا مال في غالب الحال خوفا من أن يميل به الفقر إلى الطمع فيما في أيدي الناس فيبيع به حقوق الدين ولقد أخبرت أن الحكم الربضي أراد تقديم شخص من الفقهاء يختص به للشهادة فأخذ في ذلك مع يحيى بن يحيى وعبد الملك وغيرهما من أعلام العلماء فقالوا له هو أهل ولكنه شديد الفقر ومن