القريحة الفاضلة والغريزة الكاملة التي هي مبدأ الكمال ومنشأ التمام والأساس الذي يبنى عليه والركن الذي يستند إليه فإن المرء قد يجتهد في تحصيل الآداب ويتوفر على اقتناء العلوم واكتسابها وهو مع ذلك غير مطبوع على تأليف الكلام فلا يفيده ما اكتسبه بخلاف المطبوع على ذلك فإنه وإن قصر في اقتباس العلوم واكتساب المواد فقد يلحق بأوساط أهل الصناعة وذلك أن الطبع يخص الله تعالى به المطبوع دون المتطبع والمناسب بغزيرته للصناعة دون المتصنع ولا سبيل إلى اكتساب سهولة الطبع ولا كزارنه بل هو موهبة تخص ولا تعم وتوجد في الواحد وتفقد في الآخر .
قال ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير ومن الناس من يكون في البديهة أبدع منه في الروية ومن هو مجيد في الروية وليست له بديهة وقلما يتساويان .
ومنهم من إذا خاطب أبدع وإذا كاتب قصر ومن هو بضد ذلك ومن قوي نثره ضعف نظمه ومن قوي نظمه ضعف نثره وقلما يتساويان .
وقد يبرز الشاعر في معنى من مقاصد الشعر دون غيره من المقاصد ولهذا قيل أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب وزهير إذا رغب والنابغة إذا رهب وعنترة إذا كلب والأعشى إذا طرب .
قال في المثل السائر بل ربما نفذ في بعض أنواع الشعر دون بعض فيرى مجيدا في المدح دون الهجو أو بالعكس أو ماهرا في المقامات ونحوها دون الرسائل أو في بعض الرسائل دون بعض .
قال ابن أبي الأصبع ولربما واتاه العمل في وقت دون وقت ولذلك قال الفرزدق إني ليمر علي الوقت ولقلع ضرس من أضراسي أيسر علي من قول الشعر ولذلك عز تأليف الكلام ونظمه على كثير من العلماء باللغة والمهرة في معرفة حقائق الألفاظ من حيث نبو طباعهم عن تركيب بسائط الكلام الذي قامت صور معانيه في نفوسهم