واعلمْ أَنَّ في الآية الأولى شيئاً آخرَ من جنسِ النظم وهو تعريفُ الرأس بالألفِ واللام وإِفادةُ معنى الإِضافة من غيرِ إِضافة وهو أحدُ ما أوجبَ المزيَّةَ . ولو قيل : واشتعلَ رأسي . فصُرَّحَ بالإِضافة لذهبَ بعضُ الحُسْن فاعرفْه . وأنا أكتبُ لك شيئاً ممّا سبيلُ الاستعارةِ فيه هذا السبيلُ ليستحكمَ هذا البابُ في نفسِكَ ولتأنسَ به فمن عجيبِ ذلك قولُ بعض الأعراب - الرجز - : .
( اللَّيْلُ داجٍ كَنَفَا جِلْبَابِهِ ... والبَيْنُ مَحْجْورٌ على غُرَابِهِ ) .
ليس كلُّ ما ترى منَ الملاحَة لأنْ جَعَل للَّيلِ جلباباً وحَجَر على الغرابِ . ولكن في أنْ وضعَ الكلامَ الذي تَرى فجعلَ الليلَ مبتدأً وجعل " داجٍ " خبراً له وفعلاً لما بعده وهو الكنفان وأضافَ الجلبابَ إِلى ضميرِ الليل . ولأنْ جعلَ كذلك " البينُ " مبتدأً وأجرى محجوراً خبراً عليه وأنْ أخرجَ اللفظَ على مفعولٍ . يبينُ ذلك أنك لو قلتَ : وغرابُ البينِ محجورٌ عليه أو : قد حُجر على غُرابِ البين لم تَجِدْ له هذه المَلاحةَ . وكذلك لو قلتَ : قد دجا كنفا جلبابِ اللَّيل لم يكنْ شيئاً .
ومن النَّادِر فيه قولُ المتنبي - الخفيف - : .
( غَصَبَ الدَّهْرَ والمُلوكَ عَلَيْها ... فَبَناها في وَجْنَةِ الدَّهرِ خَالا ) .
قد ترى في أولِ الأمرِ أنَّ حسنَه أجمعَ في أن جعلَ للدَّهرِ وجنةً وجَعَلَ البنيَّة خالاً في الوجنة . وليس الأمرُ على ذلك فإِنَّ موضعَ الأعجوبةِ في أن أخرجَ الكلام مُخرجَه الذي تَرى وأن أتى بالخالِ منصوباً على الحال من قوله " فبناها " . أفلا ترى أنّك لو قلت : وهي خالٌ في وجنةِ الدَّهر لوجدتَ الصّورة غيرَ ما ترى وشبيهٌ بذلك أنَّ ابنَ المعتزَّ قال :