عنه وأنَّه لا يتصوَّر مُثبَتٌ من غيرِ مُثْبِتٍ له ومنفيٌّ من غير مَنْفيٍّ عنه . فلما كان الأمر كذلك أوجبَ ذلك أن لا يعقل إلاّ من مجموع جملةِ فعلٍ واسمٍ كقولِنا : خرجَ زيد أو اسمٍ واسمٍ كقولنا : زيدٌ خارجٌ . فما عقلناه منه وهو نِسْبة الخروج إلى زيد لا يرجعُ إلى معاني اللغات ولكن إلى كون ألفاظِ اللغات سماتٍ لذلك المعنى وكونها مُرادة بها . أفلا تَرى إلى قولهِ تعالى : ( وَعَلَّم آدَمَ الأَسماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ على المَلائِكَةِ فَقال أَنْبِئُوني بأَسْماءِ هؤلاء إنْ كُنْتُمْ صادِقينَ ) أفترى أنه قيلَ لهم : أنبئوني بأسماء هؤلاء وهم لا يعرفون المشارَ إليهم بهؤلاء .
ثم إنَّا إذا نظرنا في المعاني التي يَصفُها العقلاءُ بأنها معانٍ مستنبطة ولطائفُ مستخرَجة ويجعلون لها اختصاصاً بقائلٍ دونَ قائلٍ كمثلِ قولهم في معانٍ من الشعر : إنه معنى لم يُسْبَقْ إليه فلان وإنه الذي فَطِن له واستخرجه وإنه الذي غاصَ عليه بفكره وإنه أبو عُذره لم تجد تلك المعاني في الأمر الأعمِّ شيئاً غيرَ الخبر الذي هو إثباتُ المعنى للشيء ونفيهُ عنه . يدلُّك على ذلك أنَّا لا ننظرُ إلى شيءٍ من المعاني الغريبة التي تختصُّ بقائل دونَ قائل إلاّ وجدتَ الأصلَ فيه والأساس الإِثباتَ والنفي . وإن أردتَ في ذلك مثالاً فانظر إلى يبتِ الفرزدق - الطويل - : .
( وما حملتْ أمُّ امرىء في ضُلُوعِها ... أعقَّ مِنَ الجاني عليها هِجائيا ) .
فإِنَّكَ إذا نظرتَ لم تَشُكَّ في الأصلَ والأساس هو قولُه : " وما حملتْ أم امرىء " وأن ما جاوزَ ذلك مِنَ الكلمات إلى آخر البيتِ مستَنِدٌ إليه ومبنيٌّ عليه وأنك إنْ رفعتَه لم تجد لشيء منها بَياناً ولا رأيتَ لذكرها معنًى بل ترى ذكركَ لها إن ذكرتَها هَذَياناً . والسببُ الذي من أجله كان كذلك أنَّ من حكم كل ما عدا جُزْءي الجملة - الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر - أن يكون تحقيقاً للمعنى المُثْبَت والمنفي . فقولُه : في ضلوعِها يفيدُ أولاً أنه لم يُرِدْ نفيَ الحمل على الإِطلاق ولكن الحملَ في الضلوع . وقولهُ : أعقّ يفيد أنه لم يُرِد هذا الحَملَ الذي هو حملٌ في الضلوع أيضاً على الإِطلاق ولكن حملا في الضلوع محمولهُ أعقُّ من الجاني عليها هجاءه . وإِذا كان ذلك كلُّه تخصيصاً للحمل لم يتصوَّر أن يُعْقَلَ من دون أن يَعقل نفي الحملِ لأنه لا يتصوَّر تخصيصَ شيء لم يدخلْ في نفي ولا إثبات ولا ما كان في سبيلهما من الأمر به والنهي عنه والاستخبار عنه