بسم الله الرحمن الرحيم .
وبه ثقتي وعليه اعتمادي .
اعلمْ أنَ هاهنا أصلاً أنت ترى الناسَ فيه في صورة من يعرِفُ من جانبٍ وينكر من آخر وهو أن الألفاظَ المفردةَ التي هي أوضاعُ اللغة لم توضَع لتعرفَ معانيها في أنفسها ولكن لأن يُضَمَّ بعضُها إلى بعض فيعرف فيما بينها فوائد وهذا علمٌ شريف وأصلٌ عظيم . والدليلُ على ذلك أنَّا إن زعمنا أن الألفاظ التي هي أوضاع اللغة إنما وضعت ليعرفَ بها معانيها في أنفسِها لأَدَّى ذلك إلى ما لا يَشُكُّ عاقلٌ في استحالته وهو أن يكونوا قد وضعوا للأجناس الأسماءَ التي وضعوها لها لتعرفها بها حتّى كأنهم لو لم يكونوا قالوا : رجلٌ وفرسٌ ودارٌ لما كان يكون لنا علمٌ بمعانيها . وحتى لو لم يكونوا قالوا : فعل ويفعل لمَا كنا نعرِفُ الخبر في نفسه ومن أَصْله . ولو لم يكونوا قَدْ قالوا : افعلْ لما كنا نعرف الأمر من أصله ولا نجده في نفوسنا . وحتّى لو لم يكونوا قد وَضَعوا الحروفَ لكنّا نجهلُ معانيها فلا نعقِل نفياً ولا نهياً ولا استفهاماً ولا استثناء . وكيف والمُواضَعَةُ لا تكون ولا تتصوّر إلاّ على معلوم . فمحالٌ أن يُوضعَ اسمٌ أو غيرُ اسم لغير معلوم ولأنَّ المواضَعة كالإِشارة فكما أنك إذا قلتَ : خُذْ ذاك لم تكن هذه الإشارةُ لتعرِّفَ السامعَ المشارَ إليه في نفسِه ولكن ليعلم أنه المقصودُ من بين سائرِ الأشياء التي تراها وتُبصرُها كذلك حكمُ اللفظ مع ما وُضع له . ومَن هذا الذي يَشُكُّ أنَّا لم نَعْرفِ الرجلَ والفرسَ والضربَ والقتل إلا من أساميها لو كان لذلك مساغٌ في العقل لكان ينبغي إِذا قيل : زيد أن تعرف المسمى بهذا الاسم من غير أن تكون قد شاهدتَه أو ذُكر لك بصفة .
وإِذا قلنا في العِلْم واللغاتِ من مبتدأ الأمر إنّه كان إلهاماً فإِنَّ الإِلهام في ذلك إنما يكون بين شيئين يكونُ أحدُهما مثبتاً والآخر مثبتاً له أو يكون أحدُهما منفياً والآخرُ منفياً