قولهُ تعالى : ( إنْ أنتُمْ إلاّ بَشَرٌ مِثلُنا تُريدونَ أن تَصَدُّونا عمّا كانَ يعبدُ آباؤنا ) . إنما جَاء - واللهُ أعلمُ - بإِنْ وإِلاّ دونَ إنَّما فلم يَقُلْ : إنما أنتم بشرٌ مثلُنا لأنهم جعلوا الرسلَ كأنهم بادِّعائهم النبوَّةَ قد أَخرجوا أنفسَهم عن أن يكونوا بشراً مثلَهم وادَّعَوا أمراً لا يجوزُ أنْ يكونَ لِمنْ هو بشرٌ .
ولما كان الأمرُ كذلك أخرجَ اللفظَ مُخْرجَه حيث يُرادُ إثباتُ أمرٍ يدفعُه المخاطَبُ ويدَّعي خلافَه . ثم جاء الجوابُ منَ الرسُل الذي هو قولُه تعالى : ( قالتْ لهُم رسُلُهم إنْ نحنُ إلا بشَرٌ مثلُكُم ) كذلك بإِنْ وإلاّ دون إنَّما لأنَّ من حُكْم مَن ادَّعى عليه خصمُه الخلافَ في أَمْرٍ هو لا يخالِفُ فيه أن يعيدَ كلامَ الخصمِ على وجههِ ويجيءَ به على هيئتِه ويحكيهِ كما هو . فإِذا قلتَ للرجلِ : أنتَ من شأنِك كيتَ وكيتَ . قال : نَعَمْ أنا مِنْ شأني كَيْتَ وكيتَ ولكن لا ضَيْرَ عَلَيَّ ولا يلزمُني من أجْل ذلك ما ظَننْتَ أنه يلزمُ . فالرسلُ صلواتُ الله عليهم كأنهم قالوا : إنَّ ما قلتُم من أنّا بشرٌ مثلُكم كما قلتم : لسنا ننكِرُ ذلك ولا نجهلهُ ولكن ذلك لا يمنعُنَا من أن يكونَ اللهُ تعالى قَدْ منَّ علينا وأكرمَنا بالرسالة . وأما قولُه تعالى : ( قُلْ إنَّما أنا بَشَرٌ مثلُكُم ) . فجاء بإنما لأنَّه ابتداءُ كلام قد أمِرَ النبيُّ بأنْ يُبلِّغَه إياهم ويقولَه معَهُم وليس هو جواباً لكلامٍ سابقٍ قد قِيلَ فيه : إن أنتَ إلاَّ بشرٌ مثلُنا . فيجبُ أن يؤتَى به على وفقِ ذلك الكلامِ ويُراعَى فيه حَذوُه كما كانَ ذلك في الآيةِ الأولى .
وجملةُ الأمْرِ أنك متى رأيتَ شيئاً هُوَ منَ المعلومِ الذي لا يُشَكُّ فيه قد جاء بالنَّفي فذلك لتقديرِ معنًى صار به في حُكْم المشكوكِ فيه . فَمِنْ ذلك قولُه تعالى : ( وما أنتَ بمُسْمِعٍ مَنْ في القُبورِ إنْ أنتَ إلاَّ نذيرٌ ) إنما جاء والله أعلم بالنفي والإِثبات لأنه لما قال تعالى : ( وما أنتَ بمُسمعٍ مَنْ في القبور ) . وكان المعنى في ذلك أن يقالَ للنبيِّ : إنك