فصل في تهوُّرِ بعض المفسرين .
هذه مسألةٌ قد كنتُ عملتُها قديما وقد كتبتُها هاهُنا لأن لها اتصالاً بهذا الذي صارَ بنا القولُ إليه . قولهُ تعالى : ( إنَّ في ذلك لَذِكْرَى لِمَنْ كان لَهُ قَلْبٌ ) أي لمن كان أعْمَلَ قلبَه فيما خُلِقَ القلبُ له منَ التدبُّرِ والتفكُّر والنظر فيما ينبغي أن ينظرَ فيه . فهذا على أن يُجْعَلَ الذي لا يَعِي ولا يسمعُ ولا ينظرُ ولا يتفكَّرُ كأنه قد عَدِم القلبَ من حيثُ عَدِمَ الانتفاعَ به وفاتَه الذي هو فائدةُ القلبِ والمطلوب منه . كما جُعِل الذي لا ينتفعُ ببصرهِ وسمعهِ ولا يفكر فيما يؤدِّيان إليه ولا يحصُلُ من رؤية ما يُرى وسَماع ما يُسمعُ على فائدةٍ بمنزلة من لا سَمْعَ له ولا بَصَرَ .
فأما تفسيرُ من يفسِّره على أنه بمعنى " من كان له عقلٌ " فإِنه إنما يصحُّ على أن يكونَ قد أرادَ الدَّلالةَ على الغرض على الجملة . فأمَّا أن يُؤْخَذَ به على هذا الظاهر حتى كأنَّ القلبَ اسمٌ للعقل كما يتوهَّمه أهلُ الحشوِ ومَنْ لا يعرفُ مخارجَ الكلامِ فمُحالٌ باطلٌ لأنه يؤدي إلى إبطالِ الغرض من الآية وإلى تحريفِ الكلام عن صورتِه وإزالةِ المعنى عن جهته . وذاك أنَّ المرادَ به الحثُّ على النظر والتقريعُ على تركِه وذمُّ من يُخِلُّ به ويَغْفلُ عنه . ولا يحصُلُ ذلك إلا بالطريقِ الذي قدمتهُ وإلاّ بأن يكونَ قد جعل من لا يفقَه بقلبهِ ولا ينظرُ ولا يتفكَّرُ كأنه ليس بذي قلبٍ كما يُجْعَلُ كأنه جمادٌ وكأنه مَيّت لا يشعر ولا يحسُّ . وليس سبيلُ من فسَّر القلبَ هاهنا على العقل إلاّ سبيلَ من فسَّر عليه العينَ والسمع في قول الناس : " هذا بَيِّنٌ لمن كانت له عَيْنٌ ولمن كان له سمعٌ " . وفسَّر العَمى والصَّمَم والموتَ في صفةِ من يوصفُ بالجهالة على مجرَّد الجهلِ وأَجْرى جميعَ ذلك عل الظاهر فاعرفْه