( تَولَّوْا بَغْتَةً فَكأنَّ بَيْناً ... تَهيِّبني فَفَاجَأَني اغْتِيالا ) .
( فَكانَ مَسِيرُ عِيْسِهمُ ذَمِيلاً ... وسَيْرُ الدَّمْعِ إِثْرَهُمُ انْهِمالا ) .
قولُه : فكان مسيرُ عيسِهم معطوفٌ على " تولَّوا بَغتةً " دونَ ما يليهِ من قولِه : " ففاجأني " لأنّا إنْ عطفناه على هذا الذي يليه أفسدنا المعنى من حيثُ إنه يدخلُ في معنى كأنَّ وذلك يؤدِّي إلى أن لا يكونَ مسيرُ عيسِهم حقيقةً ويكونَ متوهِّماً كما كان تهيُّبُ البَين كذلك وهذا أصلٌ كبيرٌ . والسببُ في ذلك أن الجملةَ المتوسِّطةَ بين هذه المعطوفةِ أخيراً ويبن المعطوفِ عليها الأولى ترتبط في معناها بتلك الأولى كالذي ترى أن قولَه : " فكأنّ بيناً تهيِّبني " مرتبطٌ بقوله : " تَولَّوا بَغتة " . وذلك أنَّ الثانية مسبَّبٌ والأُولى سَبَبٌ ألا تَرى أن المعنى " تولَّوا بغتةً فتوهَّمتُ أنَّ بيناً تهيَّني " ولا شكَّ أن هذا التوهُّمَ كان بسببِ أنْ كان التوليِّ بغتةً وإِذا كان كذلك كانتْ مع الأولى كالشيءِ الواحدِ وكان منزلتُها منها منزلَةَ المفعول والظرفِ وسائرِ ما يجيءُ بعدَ تمام الجملةِ من مَعْمولاتِ الفعل مما لا يمكنُ إفرادُه عل الجملةِ وأن يُعتدَّ كلاماً على حِدَتِه .
وهاهُنا شيءٌ آخرُ دقيقٌ . وهو أنَّك إذا نظرْتَ إلى قوله : فكانَ مسيرُ عيسِهم ذميلاً وجدتَه لم يُعْطَفْ هو وحدَه على ما عُطِفَ عليه ولكنْ تجدُ العطفُ قد تناوَل جملةَ البيت مربوطاً آخرُه بأوله ألا ترى أنَّ الغرضَ من هذا الكلام أن يجعلَ تولِّيهم بغتةً وعلى الوجه الذي تُوُهِّم من أجلِه أنَّ البينَ تهيِّبه مُسْتدعياً بكاءه وموجباً أن ينهَمِلَ دمعُه . فلم يَعْنِه أن يذكُرَ ذَمَلانَ العيسِ إلاَّ ليذكَر هَملانَ الدمع وأن يوفِّقَ بينهما وكذلكَ الحكمُ في الأوَّل فنحنُ وإن قلنا إن العطفَ على " تَولوا بغتةً " فإِنا لا نَعْني أن العطفَ عليه وحَده مقطوعاً عمَّا بعدَه بل العطفُ عليه مَضموماً إليه ما بعدَه إلى أخرهِ . وإنَّما أردْنا بقولنا : " إنَّ العطفَ عليه " أنْ نُعلمَك أنه الأصلُ والقاعدةُ وأن نصْرِفَك عن أن تطرحَه وتجعلَ العطْفَ على ما يَلي هذا