ومن الحَسَن البيِّنِ في ذلكَ قولُ المتنبي - الوافر - : .
( وما عَفَت الرِّياحُ لَهُ مَحَلاًّ ... عَفاهُ مَنْ حَدا بِهِمُ وَساقا ) .
لمَّا نَفَى أن يكونَ الذي يُرى به منَ الدُّروسِ والعَفاءِ منَ الرياحِ . وأن تكونَ التي فعلتْ ذلك وكان في العادةِ إذا نُفِيَ الفعلُ الموجودُ الحاصلُ عن واحدٍ فقيلَ : لم يفعلْه فلانٌ أن يقالَ : فمَنْ فعلَه قدَّر كأنَّ قائلاً قال : قد زعمتَ أنَّ الرياحَ لم تَعْفُ له مَحلاً فما عفاه إذاً فقالَ مجيباً له : عفاهُ مَنْ حَدا بِهم وساقا .
ومثلُه قولُ الوليدِ بنِ يزيدَ من الهزج : .
( عَرفْتُ المَنْزلَ الخالي ... عَفا مِنَ بَعْدِ أحَوْالِ ) .
( عَفاهُ كُلُّ حَنَّانٍ ... عَسُوفِ الوَبْلِ هَطّالِ ) .
لما قالَ : " عفا من بعدِ أحوالِ " قَدَّرَ كأنّه قيلَ له : فما عفاهُ فقالَ : عفاه كلُّ حنَّان .
واعلمْ أن السؤالَ إِذا كانَ ظاهراً مذكوراً في مثلِ هذا كان الأكثرُ أنْ لا يُذكرَ الفعلُ في الجوابِ ويُقْتَصرَ على الاسمِ وحدهَ . فأمّا مع الإِضمار فلا يجوزُ إلاَّ أن يُذْكرَ الفعلُ . تفسيرُ هذا أنه يجوز لك إِذا قيلَ : إنْ كانتِ الرياحُ لم تَعْفُه فما عفاهُ أن تقولَ : " مَنْ حَدا بهم وسَاقا " ولا تقولَ : عفاهُ مَن حدا . كما تقولُ في جوابِ من يقولُ : مَنْ فعلَ هذا زيدٌ . ولا يجبُ أن تقولَ : فعلَه زيدٌ . وأمّا إذا لم يكنِ السُّؤالُ مذكوراً كالذي عليه البيتُ فإِنَّه لا يجوزُ أن يُتْرَكَ ذكرُ الفعلِ . فلو قلتَ مثلاً : وما عفتِ الرياحُ له محلاًّ مَنْ حدا بهم وسَاقا تزعُم أنك أردتَ " عفاهُ مَنْ حدا بهم " ثم تركتَ ذكرَ الفعلِ أَحَلْتَ لأنه إنَّما يجوزُ تركُه حيثُ يكونُ السؤالُ مذكوراً لأَن ذكرَه فيه يدلُّ على إرادتِه في الجوابِ فإِذا لم يُؤْتَ بالسُّؤالِ لم يكن إلى العلم بهِ سبيلٌ فاعرفْ ذلك .
واعلم أنَّ الذي تراهُ في التنزيلِ من لفظِ " قال " مَفصولاً غيرَ معطوف هذا هو التقديرُ