على هذا الوجه مما لا يَفْهمه كثيرٌ من الأدباء فكيف يُدَّعى عليهم أنهم علموه بالضرورة بل الغايةُ القصوى في راوي اللغة أن يسنده إلى كتاب صحيح أو إلى أُسْتاذٍ مُتْقن ومعلومٌ أن ذلك لا يفيدُ اليقين .
وأما الثاني فضعيفٌ أيضاً لأن ذلك الاشتهارَ إنما يَجبُ في الأمور المهمَّة وتغييرُ اللفظة الواحدة ليس من المهمّات العظيمة حتى يُشْتهر ويُنقْل وأيضاً فهو منقوض بالكَلمات الفاسدة والإعرابات المعوجَّة الجارية في زماننا مع أن تَغيَّرها ومُغَيّرها غير معلوم .
الثالث - إنه قد اشتهر بل بلغ مْبلغَ التواتر أن هذه اللغات إنما أُخذَت عن جمع مخصوص كالخليل وأبي عمرو والأصمعي وأَقْرَانهم ولاَ شكَّ أنَّ هؤلاء ما كانوا مَعْصومين ولا بالغين حدَّ التواتر وإذا كان كذلك لم يحصل القَطْع واليقينُ بقولهم .
أَقْصى ما في الباب أن يقال : نعلم قطعاً أن هذه اللغات بأسْرها غيرُ منقولة على سبيل الكذب ويقطع بأن فيها ما هو صدقٌ قطعاً لكن كلّ لفظة عيَّناها فإنا لا يمكننا القطعُ بأنها من قبيل ما نُقل صدْقاً وحينئذ لا يبقى القَطْع في لفظ معيَّن أصلاً وهذا هو الإشكال على مَن ادّعى التواتر في نقل اللّغات .
وأما الآحاد فالإشكالُ عليه من جهة أن الرُّواة له مَجْروحون ليسوا سالمين عن القّدْح بيانُه أن أصلَ الكتب المصنّفة في النّحو واللغة كتابُ سيبويه وكتابُ العَيْن أما كتابُ سيبويه فَقَدْحُ الكوفيين فيه وفي صاحبه أظهرُ من الشمس وأيضاً فالمبرّد كان من أجلّ البصْريين وهو أَفْرَد كتاباً في القَدْح فيه .
وأما كتابُ العين فقد أطبَق الجمهور من أهل اللغة على القَدْح فيه .
وأيضاً فإن ابنَ جنّي أورد باباً في كتاب الخصائص في قَدْح أكابر الأدباء بعضهم في بعض وتكذيب بعضهم بعضاً وأورد باباً آخر في أن لغة أهل الوَبر أصحُّ من لغة أهل المَدر وغرضُه من ذلك القَدْحُ في الكوفيين .
وأورد باباً آخر في كلماتٍ من الغريب لا يُعلم أحدٌ أتى بها إلاّ ابن أحمر الباهلي .
وروى عن رُؤْبة وأبيه أنهما كانا يَرْتجلان ألفاظاً لم يَسْمَعاها ولا سُبقا إليها وعلى ذلك قال المازني : ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم .
وأيضاً فالأصمعي كان منسوباً إلى الخَلاعةَ ومشهوراً بأنه كان يَزيد في اللغة ما لم يكن منها