وقال الإمام فخر الدين وأتباعه : السببُ في وضع الألفاظ أن الإنسان الواحد وحدَه لا يستقلُّ بجميع حاجاته بل لا بدَّ من التعاون ولا تعاونَ إلاَّ بالتَّعارف ولا تعارفَ إلاَّ بأسباب كحركات أو إشاراتٍ أو نقوش أو ألفاظٍ توضع بإزاء المقاصد وأَيْسَرُها وأفيدُها وأعمُّها الألفاظ أمَّا أنها أيسر فلأَنَّ الحروفَ كيفيَّاتٌ تَعْرضُ لأصواتٍ عارضة للهواء الخارج بالتّنفس الضروريّ الممدود من قبل الطبيعة دون تكلُّف اختياري .
وأما أنها أفيدُ فلأَنها موجودةٌ عند الحاجة معدومةٌ عند عَدَمها .
وأما أنها أعمُّها فليس يمكن أن يكونَ لكل شيءٍ نَقْشٌ كذات اللّه تعالى والعلوم أو إليه إشارة كالغائبات ويمكن أن يكون لكل شيءٍ لفظٌ .
فلما كانت الألفاظُ أيسرَ وأفيدَ وأعمَّ صارت موضوعةً بإزاء المعاني .
( حد الوضع ) .
- المسألة الرابعة - في حدّ الوَضْع : .
قال التاج السبكي في شرح منهاج البيضاوي : الوضع عبارة عن تخصيص الشيء بالشيء بحيث إذا أُطلق الأوَّلُ فُهم منه الثاني .
قال : وهذا تعريفٌ سديد فإنك إذا أطلقت قولك : ( قام زيد ) فُهمَ منه صُدُور القيام منه .
قال : فإن قلتَ : مدلولُ قولنا : ( قام زيد ) صدور قيامه سواءٌ أطلقنا هذا اللّفظ أم لم نُطْلقه فما وجهُ قولكم : بحيث إذا أطلق . . قلت : الكلامُ قد يخرج عن كونه كلاماً وقد يتغيَّر معناه بالتّقييد فإنك إذا قلتَ : ( قام الناس ) اقتضى إطلاق هذا اللفظ إخبارك بقيام جميعهم .
فإذا قلتَ : ( إن قام الناس ) خرج عن كونه كلاماً بالكليّة فإذا قلتَ : ( قام الناس إلاّ زيداً ) .
لم يخرجْ عن كونه كلاماً ولكن خرج عن اقتضاء قيام جميعهم إلى قيام ما عدا زيداً .
فعلم بهذا أن لإفادة ( قام الناس ) الإخبار بقيام جميعهم شرطين : أحدهما ألاّ تبتدئَه بما يخالفُه .
والثاني ألا تختمَه بما يخالفه . وله شرطٌ ثالث أيضاً وهو أن يكونَ صادراً عن قَصْد فلا اعتبارَ بكلام النائم والساهي .
فهذه ثلاثةُ شروط لا بدَّ منها وعلى السامع التنبّه لها .
فوضحَ بهذا أنك لا تستفيدُ قيام الناس من قوله : ( قام الناس ) إلاّ بإطلاق هذا القول فلذلك اشترطنا ما ذكرناه