ومعرفةُ مثل هذا أنْفع من حفْظ الألفاظ المجرّدة وتقليد اللغة مَنْ لم يكن فقيهاً فيها .
وقد يلهج العربُ الفصحاء بالكلمة الشاذّة عن القياس البعيدة من الصواب حتى لا يتكلّموا بغيرها ويَدَعوا المُنْقاس المطَّرد المختار ثم لا يَجبُ لذلك أن يُقالَ : هذا أفصحُ من المتروك .
من ذلك قول عامة العرب : إيش صنعت يريدون أي شيء ولا بشانيك يعنون لا أب لشانيك .
وقولهم : لا تبل أي لا تبالي .
ومثل تركهم استعمال الماضي واسم الفاعل : من : يَذَر ويَدَع واقتصارهم على : تَرَك وتارك وليس ذلك لأن ( تَرك ) أفصحُ من وَدع ووذر وإنما الفصيح ما أَفْصَحَ عن المعنى واستقام لفظهُ على القياس لا ما كثُر استعمالهُ .
انتهى .
ثم قال ابن دَرَسْتويه : وليس كُلُّ ما ترك الفصحاءُ استعماله بخطأ فقد يتركون استعمالَ الفصيح لاستغنائهم بفصيحٍ آخر أو لعلَّة غير ذلك .
انتهى .
الفصل الثاني في معرفة الفصيح من العرب .
أفصحُ الخَلْق على الإطلاقَ سيدُنا ومولانا رسول اللّهحبيب رب العالمين جلَّ وعلا قال رسول اللّه : ( أنا أفصحُ العرب ) وأصحابُ الغريب ورَوَوْه أيضاً بلفظ : ( أنا أفصَحُ من نَطق بالضاد بَيْدَ أني من قريش ) وتقدم حديث : ( أن عمر قال : يا رسول اللّه ما لَكَ أفْصحنا ولم تخرج من بين أظْهُرنا . . ) الحديث .
وروى البَيْهَقي في شعب الإيمان عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي : ( أن رجلاً قال : يا رسول اللّه ما أفْصَحَك ! فما رأينا الذي هو أعْرَبُ منك .
قال : حقّ لي فإنما أُنزل القرآن عليّ بلسانٍ عربيٍّ مبين ) وقال الخطابي : اعلم أن اللّهَ لما وضعَ رسولهموضع البلاغ من وَحْيه ونَصَبه مَنْصب البيان لدينه اختار له من اللغات أعربَها ومن الألْسُن أفصحَها وأبينَها ثم أمدَّه بجوامع الكَلم .
قال : ومنْ فصاحته أنه تكلّم بألفاظ اقْتَضَبَها لم تُسْمَع من العرب قبله ولم توجد في مُتقَدّم كلامها كقوله : ( مات حَتْف أَنْفه ) ( وحَميَ الوطيس ) ( ولا يُلْدَغُ المؤمنُ من جُحر مرَّتين )