وقول أبي الطيب المتنبي .
( وكَانَ بِهَا مِثْلُ الْجُنُونِ فَأَصْبَحَتْ ... وَمِنْ جُثَثِ الْقَتْلَى عَلَيْهَا تَمَائِمُ ) .
وأمثال هذا لا تأتي إلا قليلا وسببه أن المعنى ينحصر في مقصد من المقاصد حتى لا يكاد يأتي إلا قدا كهذين البيتين ألا ترى أن أبا تمام قصد المؤاخاة في ذكر لوني الثياب من الأحمر والأخضر وجاء ذلك واقعا على المعنى الذي أراده من لون ثياب القتلى وثياب الجنة فإذا فك نظم هذا البيت وأريد صوغه بغير لفظه لا يمكن ذلك وبيت أبي الطيب جار هذا المجرى فإنه بناه على واقعة من الوقائع وذاك أن حصنا من حصون سيف الدولة قصده الروم وانتزعوه وأخربوه فنهد سيف الدولة إليه واسترجعه وجدد بناءه وهزم الروم ونصب من جثث القتلى على السور فنظم المتنبي في هذا قصيدا أوله .
( عَلَى قَدْرِ أهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ ... ) .
فلما انتهى إلى ذكر الحصن جاء بهذا البيت في جملة أبيات فشرح صورة الحال في إزعاج الحصن بالقتال وتعليق القتلى عليه وأبرز ذلك في معنى التمثيل بالجنون والتمائم وهذا لا يمكن تبديل لفظه وهو وأمثاله مما يجب على الناثر أن يحسن الصنعة في فك نظامه أنه لأنه يتصدى يتصدى لنثره بألفاظه فإن كان عنده قوة تصرف وبسطة عبارة فإنه يأتي به حسنا رائقا .
وقد نثرت هذين البيتين أما بيت أبي تمام فإني قلت في نثره لم تكسه المنايا نسج شفارها حتى كسته الجنة نسج شعارها فبدل أحمر ثوبه بأخضره وكأس حمامه بكأس كوثره وهذا من الحسن على غاية يكون كمد حسودها من جملة شهودها وأما بيت أبي الطيب المتنبي فإني قلت في نثره سرى إلى حصن