فمن ذلك ما ورد في القرآن الكريم نحو قوله تعالى ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ) فإنه كنى عن الغيبة بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله ميتا ثم جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبةفهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له مطابقة للمعنى الذي وردت من أجلهفأما جعل الغيبة كأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله فشديد المناسبة جدالأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس وتمزيق أعراضهم وتمزيق العرض مماثل لأكل الإنسان لحم من يغتابهلأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة وأما جعله كلحم الأخ فلما في الغيبة من الكراهة لأن العقل والشرع مجتمعان على استكراهها آمران بتركها والبعد عنها ولما كانت كذلك جعلت بمنزلة لحم الأخ في كراهته ومن المعلوم أن لحم الإنسان مستكره عند إنسان آخر إلا أنه لا يكون مثل كراهته لحم أخيه فهذا القول مبالغة في استكراه الغيبة وأما جعل اللحم ميتا فمن أجل أن المغتاب لا يشعر بغيبته ولا يحس بها وأما جعله ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة والشهوة لها مع العلم بقبحهافانظر أيها المتأمل إلى هذه الكناية تجدها من أشد الكنايات شبهالأنك إذا نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع التي أشرنا إليها وجدتها مناسبة لما قصدت له .
وكذلك ورد قوله تعالى ( وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها ) والأرض التي لم يطئوها عن مناكح النساء وذلك من حسن الكناية ونادره .
وكذلك ورد قوله تعالى ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ) فكنى بالماء عن العلم وبالأودية عن القلوب وبالزبد عن الضلال وهذه الآية قد ذكرها أبو حامد الغزالي C في كتابه الموسوم ب " إحياء الله علوم الدين " وفي كتابه المواسم ب " الجواهر " و " الأربعين " وأشار بها إلى أن في القرآن الكريم إشارات وإيماآت لا تنكشف إلا بعد الموت وهذا يدل على أن الغزالي C لم يعلم أن هذه الآية من باب الكنايات الذي لفظها يجوز حمله على جانبي الحقيقة والمجاز