ومما ورد من ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى ( ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) فإن وجود المؤاخذة على الصغيرة يلزم منه وجود المؤاخذة على الكبيرةِ وعلى القياس المشار إليه أولاً فينبغي أن يكون لا يغادر كبيرة ولا صغيرة لأنه إذا لم يغادر صغيرة فمن الأول ألاّ يغادر كبيرةِ وأما إذا لم يغادر كبيرة فإنه يجوز أن يغادر صغيرةِ لأنه إذا لم يعف عن الصغيرة فيقضي القياس أنه لا يعفو عن الكبيرة وإذا لم يعف عن الكبيرة فيجوز أن يعفو عن الصغيرةِ غير أن القرآن الكريم أحق أن يتبعِ وأجدر بأن يقاس عليهِ لا على غيرهِ والذي ورد فيه من هذه الآية ناقض لما تقدم ذكره .
وكذلك ورد قوله تعالى ( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما ) لأن التأفيف أدنى درجةِ وقد تقدم قولي في أول هذا النوع أنه إذا جاءت صفتان يلزم من وجود إحداهما وجود الأخرى أن يكتفي بذكرها دون الأخرىِ لأن الأخرى تجيء ضمناً وتبعاًِ وأن يبدأ بها في الذكر ثم تجيء الأخرى بعدهاِ وعلى هذا فيقال أولاً فلا تنهرهما ولا تقل لهما أفِ لكن إذا لم يقل لهما أف امتنع أن ينهرهماِ وقد كان هذا هو المذهب عندي حتى وجدت كتاب الله تعالى قد ورد بخلافهِ وحينئذ عدت عما كنت أراه وأقول به .
وأما الصفات المتعددة الواردة على شيء واحد فكقول أبي عبادة البحتري في وصف نحول الركاب .
( يَتَرَقْرَقْنَ كَالسَّرَابِ قَدْ خُضْنَ غِمَارَاً مِنَ السَّرَابِ الْجَارِي ... ) .
( كَالْقِسيِّ المُعَطَّفَاتِ بَلِ الأَسْهُم ... مَبْرِيَّةً بَلِ الأَوْتَارِ ) .
ألا ترى أنه رقى في تشبيه نحولها من الأدنى إلى الأعلى فشبهها أولاً بالقسيِ ثم بالأسهم المبريةِ وتلك أبلغ في النحولِ ثم بالأوتارِ وهي أبلغ في النحول من الأسهمِ وكذلك ينبغي أن يكون الاستعمال في مثل هذا الباب