وجهين أحدهما ما دل عليه ظاهر لفظه وهو تحريم لحم الجدي بلبن أمه خاصة وإذا أكل بلبن غير لبن أمه جاز ذلك ولم يكن حراما وهذا لا يأخذ به أحد من اليهود والوجه الآخر وهو الذي يؤخذ به عند اليهود جميعهم أن أكل اللحم باللبن حرام كائنا ما كان من اللحوم إلا طائفة منهم يسمون القرائين فإنهم تأولوا فأكلوا لحم الطير باللبن وقالوا إنما حرم اللحم بالبن من اللحوم ذوات الألبان والطير من ذوات البيض لا من ذوات الألبان .
ومما يجري على هذا النهج ما يحكى عن أفلاطون أنه قال ترك الدواء دواء فذهب بعض الأطباء أنه أراد إن لطف المزاج وانتهى إلى غاية لا يحتمل الدواء فتركه حينئذ والإضراب عنه دواء وذهب آخرون إلى أنه أراد بالترك الوضع أي وضع الدواء على الداء دواء يشير بذلك إلى حذق الطبيب في أوقات علاجه .
ومثله في الشعر قول الفرزدق .
( إِذَا جَعْفَرٌ مَرَّتْ عَلَى هَضْبَةِ الْحِمَى ... فَقَدْ أَخْزَتِ الأَحْيَاءَ مِنْهَا قُبُورُهَا ) .
وهذا يدل على معنيين أحدهما ذم الأحياء والآخر ذم الأموات أما ذم الأحياء فهو أنهم خذلوا الأموات يريد أنهم تلاقوا في قتالهم وقوما آخرين ففر الأحياء عنهم وأسلموهم أو أنهم استنجدوهم فلم ينجدوهم وأما ذم الأموات فهو أن لهم مخازي وفضائح توجب عارا وشنارا فهم يعيرون بها الأحياء ويلصقونها بهم .
وعلى هذا ورد قول أبي تمام .
( بالشِّعْرِ طُولٌ إِذَا اصْطَكَّتْ قَصَائِدُهُ ... فِي مَعْشَرٍ وَبِهِ عَنْ مَعْشَرٍ قِصَرُ ) .
فهذا البيت يحتمل تأولين أحدهما أن الشعر يتسع مجاله بمدحك ويضيق بمدح غيرك يريد بذلك أن مآثره كثيرة ومآثر غيره قليلة و الآخر أن الشعر يكون ذا فخر ونباهة بمدحك وذا خمول بمدح غيرك فلفظة الطول يفهم منها ضد القصر ويفهم منها الفخر من قولنا طال فلان على فلان أي فخر عليه