في هذه الأوصاف معان حسنة لطيفة ومنها معنى غريب لم أسبق إليه وهو قولي إنه المطاع لجدع أنفه وسواد لباسه وقد ورد الأمر بطاعة الحبشي الأجدع فإن هذا مما ابتكرته وهو مستخرج من الحديث النبوي في ذكر الطاعة والجماعة فقال ( أطع ولو عبدا حبشيا مجدعا ما أقام عليك كتاب الله ) فاستخرجت أنا للقلم معنى من ذلك وهو أن القلم يجدع ويقمص لباس السواد فصار حبشيا أجدع وهذا كما فعل أبو تمام حبيب بن أوس الطائي في قصيدته السينية فإنه استخرج المعنى المخترع من القرآن الكريم وأنا استخرجت المعنى من الخبر النبوي كما أريتك وهذا المعنى المشار إليه في وصف القلم أوردته بعبارة أخرى على وجه آخر ونبهت عليه في كتاب الوشي المرقوم في حل المنظوم وهذا كتاب ألفته في صناعة حل الشعر وغيره .
وبعد هذا فسأقول لك في هذا الموضع قولا لم يقله أحد غيري وهو أن المعاني المبتدعة شبيهة بمسائل الحساب المجهول من الجبر والمقابلة فكما أنك إذا وردت عليك مسألة من المجهولات تأخذها وتقلبها ظهرا لبطن وتنظر إلى أوائلها وأواخرها وتعتبر أطرافها وأوساطها وعند ذلك تخرج بك الفكرة إلى معلوم فكذلك إذا ورد عليك معنى من المعاني ينبغي لك أن تنظر فيه كنظرك في المجهولات الحسابية إلا أن هذا لا يقع في كل معنى فإن أكثر المعاني قد طرق وسبق إليه والإبداع إنما يقع في معنى غريب لم يطرق ولا يكون ذلك إلا في أمر غريب لم يأت مثله وحينئذ إذا كتب فيه كتاب أو نظم فيه شعر فإن الكاتب والشاعر يعثران على مظنة الإبداع فيه وقد لابست ذلك في مواضع كثيرة وسأورد ههنا ما يحذى حذوه لمن استطاع إليه سبيلا .
ومن ذلك ما كتبته عن نفسي إلى بعض ملوك الشام وأهديت إليه رطبا وهو خلد الله دولة مولانا وعمر لها مجدا وجنانا وخولها السعادة عطاء حسابا وأنشأ الليالي لخدمتها عربا أترابا وأبقى شبيهتها بقاء لا يستحدث معه خضابا ولا جعل لها في محاسن الدولة السابقة أشباها ولا أضرابا وألقى البأس بين أعدائها وحسادها حتى يبعث لهم في الأرض غرابا إذا أراد العبيد أن يهدوا لمواليهم قصرت بهم يد وجودهم وعلموا أن كل ما عندهم من عندهم لكن في الأشياء