أما القسم الأول فإن المعاني فيه على ضربين أحدهما يبتدعه مؤلف الكلام من غير أن يقتدي فيه بمن سبقه وهذا الضرب ربما يعثر عليه عند الحوادث المتجددة ويتنبه له عند الأمور الطارئة ولنشر في هذا الموضع إلى نبذة لتكون مثالا للمتوشح لهذه الصناعة .
فمن ذلك ما ورد في شعر أبي تمام في وصف مصلبين .
( بَكَرُوا وَأَسْرَوْا فِي مُتُونِ ضَوَامِرٍ ... قِيدَتْ لَهُمْ مِنْ مَرْبِطِ النَّجَّارِ ) .
( لاَ يَبْرَحُونَ وَمَنْ رَآهُمْ خَالَهُمْ ... أَبَداً عَلَى سَفَرٍ مِنَ الأَسْفَارِ ) .
وهذا المعنى مما يعثر عليه عند الحوادث المتجددة والخاطر في مثل هذا المقام ينساق إلى المعنى المخترع من غير كبير كلفة لشاهد الحال الحاضرة .
وكذلك قال في هذه القصيدة في صفة من أحرق بالنار .
( مَا زَالَ سِرُّ الْكُفْرِ بَيْنَ ضُلُوعِهِ ... حَتَّى اصْطَلَى سِرَّ الزِّنَادِ الْوَارِي ) .
( نَاراً يُسَاوِرُ جِسْمَهُ مِنْ حَرِّهَا ... لَهَبٌ كَمَا عَصْفَرْتَ شِقَّ إِزَارِ ) .
( طَارَتْ لَهَا شُعَلٌ يُهَدِّمُ لَفْحُهَا ... أَرْكَانَهُ هَدْماً بِغَيْرِ غُبَارِ ) .
( فَصَّلْنَ مَنْهُ كُلَّ مَجْمَعِ مَفْصَلٍ ... وَفَعَلْنَ فَاقِرَةً بِكُلِّ فِقَارِ ) .
( مَشْبُوبَةً رُفِعَتْ لأَعْظَمِ مُشْرِكٍ ... مَا كَانَ يُرْفَعُ ضَوءُهَا لِلسَّارِي ) .
( صَلَّى لَهَا حَيًّا وَكَانَ وَقُودَهَا ... مَيْتاً وَيَدْخُلُهَا مَعَ الْفُجَّارِ ) .
وهذا مما يعين على استخراج المعاني في شاهد الحال .
وقد ذيل البحتري على ما ذكره أبو تمام في وصف المصلبين فقال .
( كَمْ عَزِيزٍ أَبَادَهُ فَغَدا يَرْكَبُ ... عُوداً مُرَكَّباً فِي عُودِ )