فمن ذلك هذه الآية المشار إليها فإنها قد تضمنت خمسة ألفاظ هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وأحسن هذه الألفاظ الخمسة هي الطوفان والجراد والدم فلما وردت هذه الألفاظ الخمسة بجملتها قدم منها لفظة الطوفان والجراد وأخرت لفظة الدم آخرا وجعلت لفظة القمل والضفادع في الوسط ليطرق السمع أولا الحسن من الألفاظ الخمسة وينتهي إليه آخرا ثم إن لفظة الدم أحسن من لفظتي الطوفان والجراد وأخف في الاستعمال ومن أجل ذلك جيء بها آخرا ومراعاة مثل هذه الأسرار والدقائق في استعمال الألفاظ ليس من القدرة البشرية .
وقد ذكر من تقدمني من علماء البيان للألفاظ المفردة خصائص وهيآت تتصف بها واختلفوا في ذلك واستحسن أحدهم شيئا فخولف فيه وكذلك استقبح الآخر شيئا فخولف فيه ولو حققوا النظر ووقفوا على السر في اتصاف بعض الألفاظ بالحسن وبعضها بالقبح لما كان بينهم خلاف في شيء منها وقد أشرت إلى ذلك في الفصل الثامن من مقدمة كتابي هذا الذي يشتمل على ذكر الفصاحة وفي الوقوف عليه والإحاطة به غنى عن غيره لكن لا بد أن نذكر ههنا تفصيلا لما أجملناه هناك لأنا ذكرنا في ذلك الفصل أن الألفاظ داخلة في حيز الأصوات لأنها مركبة من مخارج الحروف فما استلذه السمع منها فهو الحسن وما كرهه ونبا عنه فهو القبيح وإذا ثبت ذلك فلا حاجة إلى ما ذكر من تلك الخصائص والهيآت التي أوردها علماء البيان في كتبهم لأنه إذا كان اللفظ لذيذا في السمع كان حسنا وإذا كان حسنا دخلت تلك الخصائص والهيآت في ضمن حسنه .
وقد رأيت جماعة من الجهال إذا قيل لأحدهم إن هذه اللفظة حسنة وهذه قبيحة أنكر ذلك وقال كل الألفاظ حسن والواضع لم يضع إلا حسنا ومن يبلغ جهله إلى أن لا يفرق بين لفظة الغصن ولفظة العسلوج وبين لفظة المدامة ولفظة الإسفنط وبين لفظة السيف ولفظة الخنشليل وبين لفظة الأسد ولفظة الفدوكس فلا ينبغي أن يخاطب بخطاب ولا يجاوب بجواب بل يترك وشأنه كما قيل اتركوا الجاهل بجهله ولو ألقى الجعر في رحله وما مثاله في هذا المقام إلا كمن يسوي بين صورة زنجية سوداء مظلمة السواد شوهاء الخلق ذات عين محمرة وشفة غليظة