إماء مكة في الطريق ثم صعد المنبر فجلس عليه ملياً لا يتكلم فنظرت إليه والكآبة على وجهه وجبينه يرشح عرقاً فقلت لآخر إلى جنبي ما له لا يتكلم أتراه يهاب المنطق فوالله إنه لخطيب فما تراه يهاب قال أراه يريد أن يذكر قتل مصعب سيد العرب فهو يفظعُ لذكره وغير ملوم فقال الحمد لله الذي له الخلق والأمر ومالك الدنيا والآخرة يعز من يشاء ويذل من يشاء ألا إنه يذل والله من كان الحق معه وإن كان مفرداً ضعيفا ولم يعز من كان الباطل معه وإن كان في العدة والعدد والكثرة ثم قال إنه قد أتانا خبر من العراق بلد الغدر والشقاق فساءنا وسرنا أتانا أن مصعباً قتل رحمة الله عليه ومغفرته فأما الذي أحزننا من ذلك فإن لفراق الحميم لذعة يجدها حميمه عند المصيبة ثم يرعوي من بعد ذو الرأي والدين إلى جميل الصبر وأما الذي سرنا منه فإنا قد علمنا أن قتله شهادة له وأن الله D جاعل لنا وله ذلك خيرة إن شاء الله تعالى أن أهل العراق أسلموه وباعوه بأقل ثمن كانوا يأخذونه منه وأخسره أسلموه إسلام النعم المخطم فقتل ولئن قتل أبوه وعمه وأخوه وكانوا الخيار الصالحين إنا والله ما نموت حتف أنوفنا ما نموت إلا قتلا قعصا بين قصد الرماح وتحت ظلال السيوف وليس كما يموت بنو مروان والله ما قتل رجل منهم في جاهلية ولا إسلام قط وإنما الدنيا عارية من الملك القهار الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه فإن تقبل الدنيا عليَّ لا آخذها أخذ الأشر البطر وإن تدبر عني لا أبك عليها بكاء الخرف المهتر ثم نزل .
وقال رجل من بني أسد بن عبد العزى يرثي مصعباً .
( لعمرُك إنّ الموتَ منا لمُولَعٌ ... بكُلّ فتىً رَحْبِ الذّراع أَرِيبِ ) .
( فإن يَكُ أمسَى مُصعبٌ نال حَتفَه ... لقد كان صُلْبَ العُودِ غيرَ هَيُوب )