وعهدي به في نادي عميد الملك بمدينة السلام C وسقاها صوب الغمام ومَحفله غاصٌّ بالخاص والعام شَرِقٌ بأمراء الإسلام . وقد اجتمعوا لصلة أوراق الجرثومة القائمة بأغصان الأرومة السلجوقية . وهذا الفاضل معتصٍ بيد قائده إلى تُكأة عميد الملك ووسائده . فلمّا انتصب بين يديه كالرمح بيد الشجاع مائلاً وكالحِرباء بحذاء الشمس مائلاً . قال له : أرى قدمك أراق دمك فأنت كالهَدْي بلغ المحلّ ولم يلبث أن يضمحلّ وليس يقيكَ اليوم سهام الملام ولو اتّقيتها بحَلق السلام إلاّ إنشادك قصيدتك المقفّاة باللام أو نقلك الرجل من المحطّ إلى الجذع المنصوب لك على الشطّ . فقال : أيّما لاميةٍ يعني مولانا قال : أعني القصيدة التي عِفتَ في إنشائها شُرب العافية ووضعتَ بإنشادها قفاكَ على القافية فمدحتَ الأعلام البيض بأهواسٍ أبَتْ إلاّ أن تُعشِّش في رأسك وتَبيض . فلما أخذته الصيحة بالحق ورُمي بهذا الجُلمود والمِدقّ استدار صَعِقاً على الأرض وبُدِّل طول قامته بالعرص وأخذ عميد الملك ينشد ما علق بحفظه من اللامية التي خاطب بها البَساسيري شامتاً بعرش الخلافة وقد تثلّم جانبه أشِراً بالشر الذي شالت مذانبه مستسخراً من رئيس الرؤساء وقد نصبَ على الشط عَلماً بعدما كان في كعبة الوزارة رُكناً مستلماً . وهذه هي اللامية : .
أجَل لعَمْري صَدقَ القائلُ ... إنّك حقٌّ وهُمُ الباطلُ .
قد جاءتِ الراياتُ مُبيضَّةً ... يَقدُمُهُنّ الأسدُ الباسل .
وولَّتِ السوداء مَنكوسةً ... ليس لها من ذِلَّةٍ شائلُ .
أنظرْ إلى الباغي على جِذعه ... والدمُ من أوداجه سائلُ .
قلت : ولعَمري إن هذا الشيطان الرجيم استمطر برأسه نعال الأدَم من أكفّ الخدم غضّ الله فاه وأنبت شقائق النعمان على قَفاه . ثم أمر له عميد الملك فشيل من بين يديه وحُمل إلى داره الخاصّة يَكاد من الغرق في العرق يلفظ آخر الرمق . فلما أفاق قال : قد غامرتَ بوَشْلك البحر ذا التيار والحدَب . غير أنك قد أطلعتَ الرأس من جيب قميص الأدب . ولو كان شِعرك سخيفاً لحُقَّ لقلبك أن يَضمر وَجْداً وحَيفاً ولكنك أحْميتَ فشَويتَ ورميتَ فما أشويْت وقلتَ فأسمعت ورُدّ المسكين إلى أُفحوصه وكأنه هائم رُدّ إليه فؤاده لا بل هالك عُجِّلَ له مَعاده .
ولم يحضرني الآن من شعره إلا هذه الأبيات : .
خليليَّ ما أحلى صَبوحي بدَجلةٍ ... وأطيب منه بالصَّراة غَبوقي .
شربتُ على الماءين من ماء كَرْمةٍ ... فكانا كدُرٍّ ذائبٍ وعَقيق .
على قَمَري أُفقٍ وأرضٍ تَقابلا ... فمِنْ شائقٍ حُلْوِ الهوى ومَشوقِ .
فما زلتُ أسقيه وأشرب ريقه ... وما زال يسقيني ويشرب ريقي .
فقلت لبدر التِّمِّ : تعرف ذا الفتى ... فقال : نعمْ هذا أخي وشَقيقي .
الشريف لُطْف الله الهاشمي .
أنشدني الشيخ والدي رحمة الله عليه قال : ودر هذا الشريف علينا فجمّل ناحيتنا وأفادنا من أعلاق فضله وزّدنا من ثمار عقله . فكان مما أنشدنا لنفسه قوله : .
قالت : سَلا وُدَّنا وحالَ ولمْ ... أسلُ فيُجري به ولم أَحُلِ .
عندكِ قلبي فقلّبيه وإنْ ... وجدْتِ فيه سواكِ فانتقلي .
أحمد بن عيسى الوَشّاء البغدادي .
وردَ على الشيخ أبي الطيب الخَداشي بباخَرز مادحاً له مؤمِّلاً جَداه مستمطراً نداه وقال فيه قصيدة أولها : .
صِلي حبل عذلي يا أُمامَ أوِ اقطعي ... فما خِلتُني عند المَلام بمُقلِعِ .
أعاذلتي ليس الدواء : بنافعي ... إذا كان دائي ثاوياً بين أضلُعي .
أقول وقد ولّى الشباب وعُمِّمَتْ ... مفارقُ رأسي من مَشيبي بمَقنع .
لكِ الخيرُ هذا الشيبُ قد قام واعظاً ... وأوجر وعظاً كيفما شئتِ فاصنعي .
صِلي خُلَّتي إن شئتِ أُصْفيكِ خِلَّةً ... وإلاّ فجُذِّي حَبلَ وصْلِكِ فاقطعي .
سأصدف عن ذكرِ البطالة والصِّبا ... إلى الماجد القِرم الهُمامِ السَّميْذَعِ