قلت : كان والد أبي نصر هذا نديم العميد أبي نصر بن مشكان وعندليب مجلسه ينازعه الكؤوس على السعادة وينظم له طرفي الأنس بين القضيب والوسادة . وكان كلامه يميل إلى الاقتباس ولا يفارق شفاهه إلا بعد طول المكاس كمحابس ماء الورد لا يكاد يجود به لضيق الحلوق فيتردد فيها تردد أنفاس المخنوق . ثم إذا اندفع في صياغة الألحان أنشط بنانه عقال اللسان . فأدى على أحسن هيئاتها الأغاني وملأ من طيب سماعه الأسماع لما يحقق الأماني . ويشبه البشائر والتهاني وبيد الله الإنشاء وهو الذي يزيد في الخلق ما يشاء . وزعم بعض المفسرين أنه أراد بزيادة الخلق طيب الخلق . وزعم آخرون أنه عنى بها الحسن في الوجه وهذا أيضاً مستنبط على الوجه . والله D أعلم بالصواب وعنده العلم بما في أم الكتاب .
الشيخ الإمام أبو بكر العبداني .
كاتب ملك أعنة الكلام الرزين وباهي برقوم أقلامه نقوش الصين متصون في نفسه متميز عن أبناء جنسه . وكتب في ديوان الرسالة والوزارة للشيخ أبي القاسم الجويني بخط كأنه خط الغالية على خذ الغانية . وعاش بين الوجاه طويل الباع عريض الجاه . حتى أثرت أفاويف المشيب في ذؤابته ودعاه الداعي الذي لا بد من إجابته ونقله الله D إلى دار كرامته . فمما أنشدني لنفسه قوله من قصيدة نظامية : .
عندي إذا برق العقيق تلسنا ... وأنساب في حضن الدجى أرق السنا .
شوق إلى العوجاء يخلع أضلعي ... خلجاً ويترك مهجتي نهب الضنى .
معنى خلعت عليه ريعان الصبا ... وهصرت في أفنانه غصن المنى .
تثني الشمول معاطفي فكأنني ... فنن عرته الريح وهناً فانثنى .
فالآن فوفت الخطوب ذوائبي ... وجنى المشيب من الشبيبة ما جنى .
وبنفسي الطيف الذي اكتست الفلا ... عبقاً بمسراه وسلم موهنا .
ماذا على الرشأ الغرير لو أنه ... لما أساء إلي دهري أحسنا .
الفقيه أبو عبد الرحمن عمر بن الحاكم .
الزاهد أبو سعد محمد بن محمد المعروف بالأشقر . مقطعاته حلوة كالشهد وإن كانت مقصورة على مر الزهد . فمنها ما أنشدنيه الأديب يعقوب قال : أنشدني لنفسه قوله : .
عجباً يعجبون برأيهم ... وأرى بعقلهم الضعيف قصورا .
هدموا قصورهم بدار بقائهم ... وبنوا لعمرهم القصير قصورا .
ومنها أيضاً قوله : .
عمري قصير وما قدمت من عمل ... لله زاك وما قضيت من وطري .
وأتعبتني دنيا ما لها خطر ... يظل من حرصها ديني على خطر .
وقوله : .
المرء يسعى لدنياه ويزجره ... سوط الزمان ويدنيه من الأجل .
وليس يسعى لما فيه النجاة له ... كأنه آمن فيها من الوجل .
وقوله : .
إلهي حاجاتي إليك كثيرة ... وأنت بحالي عالم وخبير .
وأنت رحيم بالبرية فاقضها ... جميعاً وذا سهل عليك يسير .
ذنوبي ذنوبي حط عني ثقلها ... فقد أنقضت ظهري وأنت غفور .
وقوله : .
إلهي إن لم تشفني فمن الذي ... شفاني وعافاني سواك من السقم .
ومن يكشف الضر الملم بساحتي ... ويقضي ديوني حين يبهظني غرمي .
سواك إله العالمين فإنهم ... جميعاً أبوا إلا التواطي على الظلم .
متى ما بدت لي حاجة وذكرتها ... لغيرك يا مولاي خبت على رغمي .
فها أنا عبد مذنب جئت تائباً ... لتصلح لي أمري وتغفر لي جرمي .
وأنشدني له في صفة الأوحال بنيسابور : .
حال بيني وبين كل حبيب ... وأخ لي موانس أو حال .
فارقوني فليت شعري عنهم ... أعلى عهدنا هم أو حالوا .
وله في الحكمة : .
رب منهوم حريص ... كشف الحرص قناعه .
وفقير قانع بال ... قوت تغنيه القناعة .
وله أيضاً في ذم أبناء الزمان : .
ظهر الكذب في الورى والنفاق ... فلسوق النفاق فيهم نفاق .
وأرى البله كالحمير صدوراً ... وبدنياهم أولي الفضل فاقوا .
هم نيام وهم سكارى جميعاً ... فإذا عاينوا اليقين أفاقوا