جاحظ نيسابور وزبدة الأحقاب والدهور . لم تر العيون مثله ولا أنكرت الأعيان فضله . وكيف ينكر وهو المزن يحمد بكل لسان أو كيف يستر وهو الشمس لا تخفى بكل مكان وكنت أنا بعد فرخاً أزغب في الاستضاءة بنوره أرغب . وكان هو ووالدي رحمة الله عليهما بنيسابور لصيقي دار وقريبي جوار . فكم حملت كتباً تدور بينهما في الإخوانيات وقصائد يتقارضان بها في المجاوبات . وما زال بي رؤفاً علي حانياً حتى ظننته أباً ثانياً رحمة الله عليه كل صباح تخفق رايات أنواره ومساء تتلاطم أمواج قاره . ووجدت بعد وفاته مجلدة من محاسن أشعاره وفيها ثمار بيانه وعليها آثار بنانه . فالتقطت منها ما يصلح لكتابي هذا من أوساط عقودها وأناسي عيونها . فمن ذلك ما كتب به إلى الأمير أبي الفضل الميكالي يعاتبه : .
يا سيداً بالمكرمات ارتدى ... وانتعل العيوق والفرقدا .
مالك لا تجري على مقتضى ... مودة طال عليها المدى .
إن غبت لم أطلب وهذا سلي ... مان بن داود نبي الهدى .
تفقد الطير على شغله ... فقال : ما لي لا أرى الهدهدا .
ومن ذلك قوله : .
وسائل عن دمعي السائل ... وحال لوني الكاسف الحائل .
قلت له الأرض في ناظري ... أوسع منها كفة الحابل .
بليت والله بمملوكة ... في مقلتيها ملكا بابل .
فإن لحاني عاذل في الهوى ... يوماً فما العاذل بالعادل .
وأنشدني الشيخ والدي رحمة الله عليه قال : أنشدني لنفسه : .
ولو أنني أنصفت في إكرامه ... لجلال مهديه الكريم الألمع .
لقضمته حب الفؤاد لحبه ... وجعلت مربطه سواد المدمع .
وخلعت ثم قطعت غير مضيق ... برد الشباب لجله والبراقع .
وله : .
سقياً لعهد سروري ... والعيش بين السراري .
إذ طير سعدي جوار ... مع امتلاك الجواري .
وغيم لهوي مطير ... وزند أنسي وار .
أيام عيشي كعودي ... وقد ملكت اختياري .
أجري بغير عذار ... أجني بغير اعتذار .
وله في الشكوى : .
ثلاث قد منيت بهن أضحت ... لنار القلب مني كالأثافي .
ديون أنقضت ظهري وجور ... من الأيام شاب له غدافي .
وفقدان الكفاف وأي عيش ... لمن يمنى بفقدان الكفاف .
وله في معناه أيضاً : .
الليل أسهره فهمي راتب ... والصبح أكرهه ففيه نوائب .
فكأن ذاك قذىً لطرفي مسهد ... وكأن هذا فيه سيف قاضب .
الحاكم أبو سعد .
عبد الرحمن بن محمد بن دوست .
ليس اليوم بخراسان أدب مسموع إلا وهو منسوب إليه متفق بالإجماع عليه وكان أصم أصلخ يضع الكتاب في حجره ويؤديه بلفظه . فيسمع ولا يسمع كالمسن يشحذ ولا يقطع . وكان والدي C من المختلفين إليه والمغترفين مما لديه والمخترفين لثمار أغصان بنان يديه . ورأيته أنا وقد طوى العمر ومراحله وبلغ من الكبر ساحله . ولم أتزود منه إلا الإكتحال بطلعته وكأن فضة ناظري بعد منقوشة بصورته . فمما أنشدني له الأديب يعقوب بن أحمد أيده الله وهو من أعيان تلامذته الرماة من جعبته النحاة إلى كعبته قوله : .
لما رأيت شبابي ... يهيم في كل واد .
عجبت من شيب فودي ... ومن شباب فؤادي .
ولم أسمع في الكناية عن مقيل المتوفى بدهليز الآخرة أملح من قوله في الأمير أحمد الميكالي لما بنى المشهد بباب معمر سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة : .
حسدوه إذ لم يدركوا مسعاته ... لما ابتنى دهليز باب الآخره .
وتيقنوا علماً بأن وراءه ... من جنة الفردوس داراً فاخره .
قلت : والحاكم أبو سعد كما أثنى على نفسه فقال : .
ولقد شربت من العلوم بأنقع ... وسقيت غيري من علومي أنقعا .
وحويت آداباً لبست جمالها ... وبهاءها وحلفت ألا أنزعا .
وله يرثي الشيخ أبا منصور الثعالبي رحمة الله عليهما : .
كان أبو منصور الثعلبي ... أبرع في الآداب من ثعلب .
ليت الردى قدمني قبله ... لكنه أروغ من ثعلب