عالي المحل ولكن ما مشى مرحاً ... غض الشباب ولكن ما طغى ددنا .
أتيح إقباله إذ قلت : أقبل من ... واهاً لإقباله الوافي بما ضمنا .
فأشرت في هذه الأبيات إلى ما تفاءل به من لفظ الإقبال الذي اتفق لي في مطلع ذمه . وتعجب الحاضرون من هجو صار وسيلة إلى المهجو . فصار ذلك غرة في جبين كرمه وطرازاً على كمّ فضله . ومن عجيب الاتفاقات أني أنقذت إليه في زمام الأمل من خراسان وهو بمدينة السلام . فوافيت الدار العضدية بها وقد عقد فيها مجلس مزرور على الملوك العرب والعجم والديالم والأكراد وهم يبرمون أسباب زفاف السيدة العباسية إلى السلطان ركن الدين رحمة الله عليه وعميد الملك مستند يذاكر وزراء أولئك الملوك ويجاذبهم أهداب المحداثة كعادته التي كانت في التفكه بثمار الأدب والتفنن في لغات الترك والعجم والعرب كما قلت فيه من قصيدة : .
مستظهر بعبارات وألسنة ... تفننت كالرياض الغر ألوانا .
هدى إلى لغة الأعراب تبعها ... وزف بالمنطق التركي خاقانا .
فطلعت عليه بغتة وهو يروي بيتين كنت عبثت بهما في صباي وهما : .
عجبت من دمعتي وعيني ... من قبل بينٍ وبعد بين .
قد كان عيني بغير دمعٍ ... فصار دمعي بغير عين .
ويروي أيضاً : .
وجه حكى الوصل طيباً زانه صدغ ... كأنه الهجر فوق الوصل علقه .
وقد رأيت أعاجيب الزمان وما ... رأيت وصلاً يكون الهجر رونقه .
فوافقت رؤيته لي روايته لشعري وقال للحاضرين : هاهو ذا وقد كان عندنا أنه بخراسان ساعة أطلقنا بشعره اللسان فإذا بموسى وقد جاء على قدر وبرد غليله بشرب من السعادة محتضر وأتأر النظر وكأنه يتقاضى شعري المنتظر فأبرزت القصيدة من الكم وقرطت بها أسماع أولئك الملوك الشم فرفعت عقيرتي بدالية أولها : .
أقوت معاهدهم بشط الوادي ... فبقيت مقتولاً وشط الوادي .
وسكرت من خمر الفراق ورقصت ... عيني الدموع على غناء الحادي .
فلما انتهيت إلى قولي فيهما : .
قالت وقد فتشت عنها كل من ... لاقيته من حاضر أو باد .
أنا في فؤادك فارم لحظك نحوه ... ترني فقلت لها : وأين فؤادي .
سكر برشف رحيقه وجمع بين برق ابتسامه ورعد تصفيقه وأقبل على الحاضرين فقال : لنا في العجم مثله فأتوا في العرب بمثله وصار ذلك عنواناً لكتاب مفاخري وشرفاً باذخاً تعطس منه مناخري . ثم أرجع إلى الغرض من تزيين هذا الكتاب ببيتين قالهما أيام الفترة وقد باض هوس الأمارة في شغافه وفرخ وسواس الرئاسة في دماغه وتلون له الشيطان بخليط أصباغه : .
الموت مر ولكني إذا ظمئت ... نفسي إلى العز مستحل لمشربه .
رياسة باض في رأسي وساوسها ... تدور فيه وأخشى أن تدور به .
فكأن النفس الناطقة نفثت في روعه أن عاقبة أمره تؤول إلى روح تخطف ورأس يقطف . ودخلت عليه بنيسابور وهو محبوس في دار عميد الحضرة فساق إلي من مجاري أحواله قصصاً وأساق من مناقب أنفاسه غصصاً وأثنى على الصاحب نظام الملك بآلائه وسماه بأحسن أسمائه وقال في أثناء ثنائه : حقق أملي واستلب حياتي من يدي أجلي .
ولا تكاد تجد في التواريخ والأخبار شخصاً واحداً تشعب فرقاً وتقسم شققاً وصار في عدة من البلدان طرائق قدداً وجوارح بدداً غيره . واقترح علي أن أنظم هذا المعنى في مرثية له فقلت : .
ما بال هذا الفلك الجاني ... نأى ولكن جوره دان .
وليست الدنيا سوى قحبة ... تبرز في الزينة للزاني .
حتى إذا اغتر بإقبالها ... مالت لإعراض وهجران .
هذا عميد الملك وهو الذي ... لم يخل منه صدر ديوان .
ولا نضا طاعته مارد ... إلا اكتسى فروة خذلان .
ولا اعتراه الفرن إلا رأى ... غضنفرا في زي إنسان .
كأن في خاتمه حيث ما ... أومى به فص سليمان .
شادت يد الدولة أركانه ... ثم هوى أعظم بنيان .
مفرقاً في الأرض أجزاؤه ... رهن قرىً شتى وبلدان