القسم الأول .
في طبقات شعراء البدو والحجاز .
أقول في هذه الطبقة : إنّ أحسن أبيات الأشعار ما طلعَتْ من أبياتٍ الأشعار ورعَتْ مع الظّباء الشيح وتزوّدت مع الضِّباب الريح مستغنيةً بحُسنها عن التصنّع والتعمُّل حلوةً إذا ذاقها الناظر بحسن التأمُّل مصقولة العُرقوب بلا تجشُّمٍ لمؤونة الحَمَّام مجدوة الثغور بلا منّةٍ لفروع البَشام . وكذلك قال المتنبي : .
حُسنُ الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ ... وفي البداوة حُسنٌ غيرُ مجلوبِ .
وقد وقع لي من أشعار هذه الطبقة ما هو أعذب من الزُّلال وأرقّ من الشَّمول صُفِّقتْ بالشَّمال . وأنا مبتدئٌ منها بما أنشدنيه الشيخ الإمام أبو عامر بن الفضل بن إسماعيل التَّميمي الجُرجاني للأمير أبي الفتوح زعيم مكّة حرسها الله تعالى : .
وصلتنْني الهمومُ وصْلَ هواكِ ... وجَفاني الرُّقاد مثلَ جفاكِ .
وحكي لي الرسول أنكِ غَضْبى ... يا كفى الله شرَّ ما هو حاكِ .
فهذا كلامٌ عليه أمارة الإمارة وله ملاحة البداوة ورشاقة الحضارة . ولا أشكّ أن لهذين الزوجين أخواتٍ تجري مجراهما غير أن الرواة لم تتداولها فتسري مسراهما . وأنا بعون الله وحُسن تيسيره من وراء طلبها حتّى أُهديَ إلى الكتاب الذي نُصب لها ضَرباً من ضربها إن شاء الله تعالى .
الأمير أبو المنيع قرْواش بن المقلَّد .
أمير العرب المقدَّم وفحلها المقرّم . أنشدني أبو الفضل يحيى بن نصرٍ السعدي البغدادي قال : أنشدني لنفسه : .
لله درُّ النائبات فإنها ... صدأً اللِّئام وصَقيل الأحرار .
ما كنت إلاّ زُبْرةً فطبعنني ... سيفاً وأطلقَ صَرفُهُنّ غِراري .
وأنشدني أبو محمد عبد الله بن محمد الحمدانيّ الخرافي قال : أنشدني أبو المكارم الفضل بن عبد الله الهاشمي قال : أنشدني لنفسه : .
من كان يُحمدُ أو يُذمُّ مورَّثاً ... للمال من آبائه وجُدوده .
إني امرؤٌ لله أشكرُ وحدهُ ... شُكراً كبيراً جالباً لمزيده .
لي أشقرٌ سمحُ العنان مغاورٌ ... يُعطيك ما يُرضيكَ من مجهوده .
ومُهندٌ عضبٌ إذا جَرَّدتُهُ ... خِلتُ البروقَ تموجُ في تجريده .
ومثقَّفٌ لدْنُ السَّنامِ كأنّما ... أمُّ المنايا رُكِّبت في عوده .
وبذا حَويتُ المالَ إلاّ أنني ... سلّطتُ جود يدي على تبديده .
الأمير عليُّ بن محمد الصُّليحيُّ .
الناجمُ بالحجاز .
أنشدني أبو الفضل جعفرُ بن يحيى بن الحكّاك المكيُّ له من قصيدة أوّلها : .
أقول إذا باهَوا بجَرِّ الذلاذل ... لباسيَ دِرعي لا لباسُ الغَلائلِ .
ومناه : .
وسَرجي فِراشي والحُسامُ مُضاجعي ... وعُدّةُ حَربي لا ذواتُ الخَلاخل .
ورُمحي يُعاطيني البعيدَ لأنني ... تناولتُ ما أعيا على المتناول .
ولي همةٌ تَسمو على كل همَّةٍ ... ولي أملٌ أعيا على كلّ آمِلِ .
ولي من بني قَحطانَ أنصار دولةٍ ... بطاريقُ من أنجادِ كلِّ القبائل .
وحكى لي أبو الفضل جعفر بن يحيى الحكّاك هذا أن أخاه الحُسين بن يحيى الحكّاك المكيّ أجاب الأمير الصًّليحيَّ عن هذه اللامية بقوله : .
رُويدك ليس الحقُّ يُنفى بباطلِ ... وليس مُجدٌّ في الأُمور كهازل .
كزعمك أن الدرع لُبسُكَ في الوغى ... وذاك لجِبنٍ فيك غير مُزايل .
وهل ينفعنّ السيفُ يوماً ضجيعه ... إذا لم يُضاجعه بيقظةِ باسِلِ .
فهلاّ اتّخذتَ الصبر دِرعاً وجُنّةٍ ... كما الصبر دِرعي في الخطوب النوازل .
وتفخر أن أصبحت مأمول عُصبةٍ ... فأحسِنْ بمأمولٍ وأخسِسْ بآمِل .
وهل هي إلاّ في تُرابٍ جمعتَهُ ... فهلاّ غدتْ في بَذلِ عُرفٍ ونائل .
كما هَمَّنا فاعلمْ إغاثةُ سائلٍ ... وإسعافُ ملهوفٍ وإغناءُ عائل .
وختم القصيدة بقوله فيها : .
ولا تَغتَرْ بالليثِ عندَ خُدورهِ ... فكَمْ خادِرٍ فاجا بوثْبةِ صائلِ .
المُجاشعيّ شاعرُ الحرمين