انتهى . قلت : وهذا في البديهة مخرع لا يتفق ذلك لأحد غيره من حسن هذا النظم وإبرازه في هذا القالب هكذا شاعت هذه الواقعة عن الشيخ صدر الدين في الديار المصرية وكنا نعتقد صحتها دهراً حتى ظفرنا بالبيت المذكور وهو من جملة بيتين من شعر المتقدمين والأول منهما : .
إن الذين لجهلهم لا يقتدوا ... في الدين بابن كرام غير كرام .
وكان الظفر بهذين البيتين في سنة أربع وأربعين وسبع مائة .
وجمع موشحاته وسمى الكتاب طراز الدار وهذا في غاية الحسن لأنه أخذ اسم كتاب ابن سناء الملك وهو دار الطراز فقلبه وقال طراز الدار لأن طراز الدار أحسن ما فيها وكان الأدب قد امتزج بلحمه ودمه .
حكى لي قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن علي السبكي الشافعي قال : دخلت عليه في مرضه الذي توفي فيه فقلت : كيف تجدك ؟ أو كيف حالك ؟ فأنشدني : .
ورجعت لا أدري الطريق من البكا ... رجعت عداك المبغضون كمرجعي .
فكان ذلك آخر عهدي به . أخبرني القاضي شهاب الدين ابن فضل الله قال : وكان عارفاً بالطب والأدوية علماً لا علاجاً فاتفق أن شكا إليه الأفرم سوء هضم فركب له سفوفاً وأحضره فلما استعمل منه أفرط به الإسهال جداً فأمسكه مماليك الأفرم ليقتلوه وأحضر امين الدين سليمان الحكيم لمعالجة الأفرم فعالجه باستفراغ بقية المواد التي اندفعت وأعطاه أمراق الفراريج ثم أعطاه الممسكات حتى صلح حاله فلما صلحت حاله سأل الأفرم عن الشيخ صدر الدين فأخبره المماليك ما فعلوه به فأنكر ذلك عليهم ثم أحضره وقال له : يا صدر الدين جئت تروحني غلطاً وهو يضحك فقال له سليمان الحكيم : يا صدر الدين اشتغل بفقهك ودع الطب فغلط المفتي يستدرك وغلط الطبيب ما يستدرك فقال له الأفرم : صدق لك لا تخاطر ثم قال لمماليكه : مثل صدر الدين ما يتهم والله الذي جرى عليه منكم أصعب مما جرى علي وما أراد والله إلا الخير فقبل يده وبعث إليه الأفرم لما انصرف جملة من الدراهم والقماش .
وأخبرني أيضاً أن الشيخ تقي الدين ابن تيمية كان يقول عنه : ابن الوكيل ما كان يرضى لنفسه بأن يكون في شيء إلا غاية ثم يعدد أنواعاً من الخير والشر فيقول : في كذا كان غاية وفي كذا كان غاية . . قال : ولما أنكر البكري استعارة البسط والقناديل من الجامع العمري بمصر لبعض كنائس القبط في يوم من أيام مهماتهم ونسبت هذه الفعلة إلى كريم الدين وفعل ما فعل ثم طلع إلى حضرة السلطان وكلمه في هذا وأغلظ في القول له وكاد يجوز ذلك على السلطان لو لم يحل بعض القضاة الحاضرين على البكري وقال : ما قصر الشيخ كالمستزري به والمستهزئ بنكيره فحينئذ أغلظ السلطان في القول للبكري فخارت قواه وضعف ووهن فازداد تأليب بعض الحاضرين عليه فأمر السلطان بقطع لسانه فأتى الخبر إلى الشيخ صدر الدين وهو في زاوية السعودي فطلع إلى القلعة على حمار فاره اكتراه قصداً للسرعة فرأى البكري وقد أخذ ليمضي فيه ما أمر به فلم يملك دموعه أن تساقطت وفاضت على خده وبلت لحيته فاستمهل الشرطة عليه ثم أنه صعد الإيوان والسلطان جالس به وتقدم إلى السلطان بغير استئذان وهو باكٍ فقال له السلطان : خير يا صدر الدين فزاد بكاؤه ونحيبه ولم يقدر على مجاوبة السلطان فلم يزل السلطان يرفق به ويقول له : خير ما بك إلى أن قدر على الكلام فقال له : هذا البكري من العلماء الصلحاء وما أنكر إلا في موضع الإنكار ولكنه لم يحسن التلطف فقال له السلطان : إي والله أنا أعرف هذا ما هذا إلا حطبة ثم انفتح الكلام ولم يزل الشيخ صدر الدين يرفق السلطان ويلاطفه حتى قال له : خذه وروح فأخذه وانصرف هذا كله والقضاة حضور وأمراء الدولة ملء الإيوان ما فيهم من ساعده وملا أعانه إلا أمير واحد شذ عني اسمه .
وحدث عنه من كان يصحبه في خلواته أنه كان إذا فرغ مما هو فيه قام فتوضأ ومرغ وجهه على التراب وبكى حتى يبل ذقنه بالدموع ويستغفر الله ويسأله التوبة حتى قال بعضهم : لقد رأيته وقد قام من سجوده ولصق بجدار الدار كأنه اسطوانة ملصقة .
وللشيخ صدر الدين ابن الوكيل C تعالى ديوان موشحات منها قوله يعارض السراج المحار : ما أخجل قده غصون البان بين الورق إلا سلب المها مع الغزلان حسن الحدق قاسوا غلطاً من حاز حسن البشر بالبدر يلوح في دياجي الشعر لا كيد ولا كرامةٌ للقمر