ولم تُضيِّق بذاك صَدري ... لأنّ لي أسوةُ الصحابَه .
وقد قيل في ابن سناء الملك ايضاً : .
أبغضتَ كلَّ أبي بكرٍ وما ... تَرِبت إلاّ يداك بذا حتى ابن أيّوب .
ولما نظم ابن سناء الملك قصيدتَهُ التي امتدح بها تورانشاه أخا صلاح الدين وأولّها : .
تقنّعتُ لَكِنْ بالحَبيب المعمَّمِ ... وفارَقتُ لكِن كلَّ عَيشٍ مُذَمَّم .
تعصّب عليه شعراء الديار المصرية وهجّنوا هذا الافتتاح وكتب إليه الوجيه ابن الذَرَوي : .
قل للسعيد مقالَ من هو مُعجَبٌ ... منه بكلِّ بديعةٍ ما أَعجبا .
لقصيدك الفضلُ المُبينُ وإنمّا ... شعراؤنا جهِلوا به المُستغرَبا .
عابوا التقنُّعَ بالحبيب ولو رأى الطّ ... ائيُّ ما قد حُكتَهُ لتعصَّبا .
فقال ابن المنجّم : .
ذَرَويُّنا قَتَلتهُ قِلةُ عقلِهِ ... في نَصرِ بيتٍ شائعٍ عن ضِفدعِ .
شيءٌ من الشعر الركيك رَويتَهُ ... لمخنثَينِ معصَّبٍ ومقنَّع .
قلت : لقد تحامل عليه من هجّنه وتعَنَّتَ من قبَّحهُ ولكن هذا من الحسد الذي جُبِلَت عليه الطِباع الرديئة لأنه قال : " تقنَّعتُ " من القناعة ورَشَّحه بالمعمّم فصار من التقنُّع بالقِناع وأشار بقوله " الحبيب المعمّم " إلى قول أبي الطيِّب : .
ولو أنّ ما بِي من حَبيبٍ مقنَّعِ ... عَذرتُ ولكِن من حبيبٍ معمّمِ .
وكذلك تَعَنَّتَ شرف الدين علي بن جُبارة على ابن سيناء الملك وعلّق على شعره مجلدةً سمّاها " نظم الدرّ في نقد الشعر " وواخذه في أشياء ما أَظنّه كان له ذوقٌ يَفهم بها مقاصدَ ابن سيناء الملك . ومن ترسلأِهِ ما كتب به إلى القاضي الفاضل يشكو من رمدٍ أصابه كتب الله لمولانا على نفسه الرحمةَ وعلى عدوّه النِّقمة وآتاه الخطاب والحكمة وأسبغ عليه كما أسبغ به النعمة وعضّد بآزائه الدولةَ وببقائه الملّةَ واعزّ بسلطانه الأُمةَ وأدام الله أيامَه حتى تطيرَ من آفاقه النعائم وحتى تخلَعَ أطواقَها الحمائمُ وحتى تنزِلَ من منازلها النجومُ العواتمُ وحتى تسقُطَ من كفّ الثريّا الخواتم .
وحتى يؤوبَ القارظان كلاهما ... ويُنشَرَ في القَتَلى كُليبٌ لوائلِ .
خدمَتَهُ بعد أن حَصَلَت عينه في قبضة الرمد وبعد أن قسا قلبُه وطال عليه الأمد وبعد أن تعاقبت فيها الدَمعتان دَمعةُ الألم ودمعة الكَمَد وبعد أن أُحِّجت عليها نارُ الله المؤصَدة وأصبحت منها في عمدٍ ممدَّدةً وبعد أن سخَّر الله عليها الآلام سبع ليالٍ وثمانيةَ أيّامٍ وكأنها واللهِ سبعُ سنين وثمانيةُ أعوام وبعد أن فصَدَ في أسبوع واحد دَفعتَين وشَرِبَ المُسهِل ثلاثَ مرّات وكاد لأجل السجعة يكذب ويقول مرّتين وبعد أن ملأ الدار صُراخاً وأقلق الجار صياحاً وبعد أن كلمه العَمى شِفاها وخاطبه صُراحاً وبعد أم مرّت بعينه العبرات والعِبَر وبعد أن قذفت من القَذَى برمادٍ ورمَت من الدموع بشَرَر وبعد أن استشفى بتراب الرَبع الذي قال فيه الشاعر : .
ورَبع الذي أهواه يروِي شرابهُ ال ... عِطاشَ ويَشفي تُربُه الأعيُنَ الرمدا .
فضحك رَمَده من هذا الشاعر الكاذب وسخِر منه باللحية والشارب وأما الشاعر فلو أبصره ما أبصره بصر المملوك لما قال : .
يا شِعرُ في بَصَري ولا في خَدّه ... هذا السوادُ فِداء أحمر وَدّه .
ولكان يسأل الله أن يَقِيَ سواد عينه بأن يُنبِتَ في خدّ معشوقه شوك القنا فضلاً عن شوك الورد وأن يُطلع كل نباتٍ في كتاب أبي حنيفة على ذلك الخدّ ولو علم جميل بن مَعمَرٍ مِقادرَ أذَى القَذَى لما دعا على محبوبته في قوله : .
رمى الله في عَينَي بُثينةَ بالقَذى ... وفي الغُرِّ من أنيابها بالقوادح .
وأما القائل : .
ترابُهم وحقّ أبي تُرابٍ ... أعزُّ عليّ مِن عَيني اليمين .
فخصمه على كذبه من أقسم به في هذا الشعر ولكنّهم جهِلوا ما لم يحيطوا بعلمه وتكلّم كل شاعرٍ منهم وطرفه مخلَّصٌ من يد سُقمه وواللهِ لقد ناحت المملوك وهو في شدّة المَرَض وساوسه وخاطبته هواجسُه وقالت له : لعلّك عوقبتَ بما كنتَ تدّعيه وتكذب فيه على عينك في شعرك ولا سيّما في قولك :