فأمهل قيساً حتى اجتمع قومه فدعاه وقال : يا قيس إنك اعتللت هذه العلة فخفت عليك ولا ولد لي وساك وهذه المرأة ليست بولود فتزوج غيرها من بنات عمك لعل الله يهب لك ولداً تقر به أعيننا . فقال قيس : لا أتزوج غيرها أبداً . قال أبوه : إن في مالي سعة فتسر بالإماء قال : ولا أسوءها بشيء . قال أبوه : فأقسمت عليك إلا طلقتها . قال : الموت عندي والله اسهل من ذلك ولكني أخيرك خصلة من ثلاث خصال : قال : وما هي ؟ قال : تزوج أنت لعل الله يرزقك ولداً غيري . قال : ما في فضل لذلك . قال : فدعني ارحل عنك بأهلي واصنع ما كنت صانع لو مت في علتي هذه قال : ولا هذه . قال : ادع لبنى عندك وأرتحل عنك فلعلي اسلوها فإن ما أحب أن نفسي طيبة أنها في خيالي . قال : لا أرضى أو نطلقها وحلف أن لا يكنه سقف أبداً حتى يطلق لبنى .
وكان يخرج فيقف في الشمس فيجيء قيس فيقف إلى جانبه ويظله بردائه ويصلى هو بحر الشمس حتى يفيء الفيء فينصرف عنه ويدخل إلى لبنى فيعانقها ويبكي وتبكي معه وتقول : يا قيس لا تطع أباك تهلك وتهلكني فيقول : ما كنت لطيع فيك أحداً أبداً .
فيقال إنه مكث كذلك سنة وقيل بل أربعين يوماًَ ثم طلقها .
فلما بانت بطلاقها وفرغ من الكلام لم يلبث أن استطير عقله وذهب به ولحقه مثل الجنون وأسف وجعل يبكي وينشج .
وبلغها الخبر فأرسلت إلى أبيها فأقبل بهودج على ناقة وإبل تحمل أثاثها فلما رأى قيس ذلك اقبل على جاريتها وقال : ويحك ما دهاني فيكم ؟ قالت : لا تسلني وسل لبنى فذهب إلى خبائها ليسلم عليها ويسألها فمنعه قومها .
وأقبلت عليه امرأة من قومه فقالت : ما لك تسال كأنك جاهل أو تتجاهل هذه لبنى ترحل الليلة أو غداً فسقط مغشياً عليه لا يعقل ثم أفاق وهو يقول : .
وإني لمفنٍ دمع عيني بالبكا ... حذار الذي قد كان أو هو كائن .
وقالوا غدً أو بعد ذاك بليلةٍ ... فراق حبيبٍ لم يبن وهو بائن .
وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفك إلا أن ما حان حائن .
واشتد مرضه فسأل أبوه فتيات الحي أن يعدنه ويتحدثن عنده لعله يتسلى فأتينه وجلسن عنده .
وجاءه طبيب يداويه فقال : .
عيد قيسٍ من حب لبنى ولبنى ... داء قيسٍ والحب داء شديد .
فإذا عادني العوائد يوماً ... قالت العين لا أرى من أريد .
ليت لبنى تعودني ثم اقضي ... إنها لا تعود في من يعود .
ويح قيسٍ ماذا تضمن منها ... داء خبلٍ والقلب منها عميد .
فقال له الطبيب : مذ كم وجدت العلة بهذه المرأة ؟ فقال : .
تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... ومن بعد ما كنا نطافاً وفي المهد .
فزاد كما زدنا فأصبح نامياً ... وليس إذا متنا بمنفصم العقد .
ولكنه باقٍ على كل حادثٍ ... وزائرنا في ظلمة القبر واللحد .
ومن شعره فيها قوله : .
وفي عروة العذري إن مت أسوةٌ ... وعمرو بن عجلان الذي قتلت هند .
وفي مثل ما ماتا به غير أنني ... إلى أجلٍ لم يأتني وقته بعد .
هل الحب إلا عبرة ثم زفرة ... وحر على الأحشاء ليس له برد .
وفيض دموعٍ تستهل إذا بدا ... لنا علمٌ من أرضكم لم يكن يبدو .
وشكا أبو لبنى قيساً إلى معاوية وأعلمه بتعرضه لها بعد الطلاق فكتب إلى مروان بن الحكم بهدر دمه وأمر أباها أن يزوجها بخالد بن حلزة من غطفان .
فلما علم قيس بذلك جزع جزعاً شديداً وقال : .
فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها ... مقالة واشٍ أو وعيد أمير .
فلن يمنعوا عيني من دائم البكا ... ولن يذهبوا ما قد أجن ضميري .
وكنا جميعاً قبل أن يظهر الهوى ... بأنعم حالي غبطة وسرور .
فما برح الواشون حتى بدت لنا ... بطون الهوى مقلوبةً لظهور .
لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا ... ولكنما الدنيا متاع غرور .
ولم يزل تارة يتوصل إلى زيارتها بالحيلة عليها وتارة تزوره وهو عند قوم نازل وتارة يختفي عن زوجها بأنواع من التستر والتخفي إلى أن ماتت لبنى فتزايد ولهه وجزعه وخرج في جماعة قومه حتى وقف على قبرها وقال :