فما غاب عنهم إلا مديدة حتى عمل عشر مقامات وأضافها إلى تلك وأصعد بها إلى بغداد فحينئذ بان فضله وعلموا أنها من عمله .
وحكى بعض أهب الأدب قال : لما قدم ابن الحريري إلى بغداد وكان الناس يهتفون بفضائله ويشرئبون إلى لقائه وسماع كلامه فحضر إليه في من حضر ابن جكينا المعروف بالبرغوث فلم يجده على ما كان في ظنه من فصاحته ولسنه فنظم أبياتاً منها : .
شيخٌ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس .
أنطقه الله بالمشان وقد ... ألجمه في العراق بالخرس .
وكان يوماً جالساً ببعض مجالس الأكابر فجرى ذكر قول البستي في رجل بخيل شرير : إن لم يكن لنا طمع في درك درك فأعفنا من شرك شرك . فلم يبق أحد إلا استحسنها وأقر بالعجز عن الإتيان بمثلها .
فقال ابن الحريري في الحال : إن لم تدننا من مبارك مبارك فأبعدنا من معارك معارك . وممن حط عليه وتنقصه ابن الأثير الجزري في كتابه المثل السائر وقد أجبته عما قال في كتابي نصرة الثائر على المثل السائر وذكرت هناك فصلاً في فضل القمامات .
وقال ياقوت : قرأت في كتاب لبعض أدباء البصرة قال الشيخ أبو محمد حرس الله نعمته معاياة : .
ميم موسى من نون نصر ففسر ... أيهذا الأديب ماذا عنيت .
تفسيره : ميم الرجل إذا أصابه الموم وهو البرسام ويقال : إنه أشد الجدري ونون نصر : حوت نصر والنون : السمكة يعني أنه أكل سمكة نصر فأصابه الموم .
ولي في مثله : .
باء بكر بلام ليلى فما ينف ... ك منها إلا بعينٍ وهاء .
باء : أي أقر واللام الدرع فلما أقر لليلى بها لزمته فما ينفك منها إلا بعين الدرع وهاء : أي خذي .
ومن شعره : .
خذ يا بني بما أقول ولا تزغ ... ما عشت عنه تعش وأنت سليم .
لا تغترر ببني الزمان ولا تقل ... عند الشدائد : لي أخ ونديم .
جربتهم فإذا المعاقر عاقر ... والآل آل والحميم حميم .
وبلغه أن صحبه أبا زيد المطهر بن سلام البصري الذي عمل المقامات عنه أنه قد شرب مسكراً فكتب إليه : .
أبا زيدٍ اعلم أن من شرب الطلا ... تدنس فافهم سر قولي المهذب .
ومن قبل سميت المطهر والفتى ... يصدق بالأفعال تسمية الأب .
فلا تحسها كيما تكون مطهراً ... وإلا فغير ذلك الاسم واشرب .
فلما بلغته الأبيات أقبل حافياً إلى الحريري وبيده مصحف وأقسم به أن لا يعود إلى شرب مسكر فقال له : ولا تحاضر من يشربه .
قرأت كتاب المقامات من أوله إلى آخره على العلامة شهاب الدين أبي الثناء محمود بن سليمان بن فهد الحلبي الكاتب في مدة كان آخرها ثاني عشر المحرم سنة أربع وعشرين وسبعمائة بدمشق ورواه لي عن شيخه مجد الدين محمد بن احمد بن عمر بن شاكر الإربلي عن الشيخين شرف الدين أبي عبد الله الحسين بن إبراهيم بن الحسين وعز الدين عبد العزيز عثمان بن أبي طاهر الإربليين عن أبي طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر الخشوعي قال : أنا الحريري إجازة .
وعنهما وعن إسماعيل بن أبي اليسر التنوخي قالوا جميعاً : أنا أبو اليمن الكندي أنا عبد الله ولد المصنف قال : أنا والدي