وكان الفضل بن يحيى بن برمك شديد الكبر عظيم التيه فعوتب على ذلك فقال : هيهات هذا شيءٌ حملت عليه نفسي لما رأيته من عُمارة بن حمرة ؛ فإنَّ أبي كان يضمن فارس من المهدي فحلَّ عليه ألف ألف درهم فأمر المهدي أبا عون عبد الله بن يزيد بمطالبته وقال له : إن أدَّى إليك المال قبل أن تغرب الشمس من يومنا هذا وإلاّ فأتني برأسه - وكان متغضِّباً عليه وكانت حيلته لا تبلغ عشر المال - فقال : يا بنيّ إن كانت لنا حيلة فليس إلاَّ من قبل عُمارة بن حمزة وإلاّ فأنا هالك فامضِ إليه . فمضيت إليه فلم يعرني الطرف ثمَّ تقدَّم بحمل المال فحُمل إلينا . فلمَّا مضى شهران جمعنا المال فقال أبي : امضِ إلى الشريف الحرّ الكريم فأدِّ إليه ماله . فلمَّا عرَّفته الخبر غضب فقال : ويحك أكنتُ قسطاراً لأبيك ؟ ! .
فقلت : لا ولكنَّك أحييته ومننت عليه وهذا المال وقد استغنى عنه . فقال : هو لك . فعدتُ إلى أبي فقال : لا والله ما تطيب به نفسي لك ولكن لك منه مئتا ألف درهم . فتشبَّهتُ به حتَّى صار خلقاً لا أستطيع مفارقته .
وبعث أبو أيّوب المكّي بعض ولده إلى عُمارة فأدخله الحاجب قال : وأدناني إلى ستر مسبل فقال : ادخل فدخلت فإذا هو مضطجع محوِّلٌ وجهه إلى الحائط فقال الحاجب : سلِّم فسلَّمت فلم يردّ عليَّ فقال الحاجب : اذكر حاجتك فقلت : جعلني الله فداءك أخوك أبو أيوب يقرئك السلام ويذكر ديناً بهضه وفتر وجهه ويقول لك : لولاه لكنت مكان رسولي تسأل أمير المؤمنين قضاءه عنِّي . فقال : وكم دين أبيك ؟ فقلت : ثلاث مائة ألف درهم فقال : أوَفي مثل هذا أكلِّم أمير المؤمنين ؟ يا غلام احملها معه ؛ ولم يلتفت إليَّ ولم يكلِّمني بغير هذا . وقال الفضل بن الربيع : كان أبي يأمرني بملازمة عُمارة بن حمزة فاعتلَّ عُمارة - وكان المهدي سيئ الرأي فيه - فقال أبي يوماً : يا أمير المؤمنين مولاك عُمارة بن حمزة عليلٌ وقد أفضى إلى بيع فرشه وكسوته ؛ فقال : غفلنا عنه وما كنت أظنُّ حاله بلغت إلى هذا احمل إليه خمس مائة ألف درهم وأعلمه أنَّ له عندي بعدها ما يحبّ . قال : فحملها أبي إليه من ساعته وقال لي : اذهب بها إلى عمّك عُمارة . فقال : فأتيته ووجهه إلى الحائط فسلَّمت فقال : من أنت ؟ قلت : ابن أخيك الفضل بن الربيع فقال : مرحباً بك فقلت له : أخوك يقرئك السلام ويقول لك : أذكرتُ أمير المؤمنين أمرك فاعتذر من غفلته عنك وأمر لك بهذا المال ؛ فقال لي : قد كان طال لزومك لنا وكنَّا نحبُّ أن نكافئك على ذلك ولم يمكنَّا قبل هذا الوقت انصرف بالمال فهو لك قال : فهبته أن أردَّ عليه فتركت البغال على بابه وانصرفتُ إلى أبي وأعلمته الخبر ؛ قال : يا بني خذها بارك الله لك فيها فليس عُمارة ممَّن يراجَع .
ودخل عُمارة يوماً على المهدي فأعمه فلمَّا قام قال له رجلٌ من أهل المدينة من القرشيين : يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي أعظمته هذا الإعظام كلَّه ؟ فقال له : هذا عُمارة بن حمزة مولاي . فسمع عُمارة كلام المهدي فرجع إليه وقال : يا أمير المؤمنين جعلتني كبعض خبَّازيك وفرَّاشيك ألا قلتَ : هذا عُمارة بن حمزة بن ميمون مولى عبد الله بن عبَّاس ليعرف الناس مكاني منك ! .
وأخرجت إليه يوماً أمّ سلمة عقداً له قيمةٌ جليلة وقالت للخادم : أعلمه أنِّني أهديته إليه . فأخذه بيده وشكر أبا العباس ووضعه بين يديه ونهض فقالت أمّ سلمة لأبي العباس : إنَّما أُنسِيَه فقال أبو العباس للخادم : الحقه به وقل له : هذا لك فلم خلَّفته ؟ فلمَّا لحقه قال : ما هو لي فاردده فقال : إنَّما هو لك فقال : إن كنت صادقاً فهو لك ؛ فانصرف الخادم بالعقد فاشترته أمّ سلمة من الخادم بعشرين ألف دينار . وأخباره في الكرم المفرط والتيه الزائد كثيرة وهذا أُنموذج منها .
وله تصانيف منها : كتاب رسالة الخميس التي تُقرأ على بني العباس كتاب رسائله المجموعة كتاب الرسالة الماهانية معدودة في كتب الفصاحة الجيّدة . وقال فيه بعض شعراء أهل البصرة : .
أراكَ وما ترى إلاَّ بعينٍ ... وعينُك لا ترى إلاَّ قليلا .
وأنتَ إِذا نظرتَ بملءِ عينٍ ... فخذْ من عينك الأخرى كفيلا .
كأنِّي قد رأيتُك بعد شهرٍ ... ببطن الكفِّ تلتمس السبيلا .
ومن شعر عُمارة بن حمزة :