أبكيهِ ثمَّ أقولُ معتذراً لهُ : ... وُفِّقْتَ حينَ تركتَ ألأم دارِ .
جاورتُ أعدائي وجاورَ ربَّهُ ... شتَّانَ بين جوارهِ وجواري .
أشكو بعادك لي وأنت بموضعٍ ... لولا الرَّدى لسمعتَ فيه سِراري .
ما الشرقُ نحو الغرب أبعدَ شُقَّةً ... من بُعد تلك الخمسةِ الأشبارِ .
هيهاتَ قد علِقتكَ أسبابُ الرَّدى ... وأبادَ عمرَك قاصمُ الأعمارِ .
ولقد جريتَ كما جريتُ لغايةٍ ... فبلغتَها وأبوكَ في المِضمارِ .
فإذا نطقتُ فأنتَ أوَّلُ مَنطقي ... وإذا سكتُّ فأنت في إضماري .
أُخفي من البُرَحاءِ ناراً مثلَ ما ... يُخفي من النارِ الزنادُ الواري .
وأُخفِّضُ الزَّفَراتِ وهي صواعدٌ ... وأُكفكفُ العَبَراتِ وهي جَوارِ .
وأكُفُّ نيرانَ الأسر ولربَّما ... غُلِبَ التصبُّرُ فارتمتْ بشَرارِ .
وشهاب زَند الحزن إن طاوعتهُ ... وارٍ وإن عاصيتهُ متوارِ .
ثوبُ الرئاءِ يشِفُّ عمَّا تحتهُ ... فإذا التحفتَ بهِ فإنَّكَ عارِ .
قصُرَتْ جفوني أم تباعد بينها ... أمْ صُوِّرَتْ عيني بلا أشفارِ .
جَفَتِ الكرى حتَّى كأنَّ غِرارهُ ... عند اغتماضِ الطرف حدُّ غِرارِ .
ولوِ استعارتْ رقدةً لدحا بها ... ما بين أجفاني من التيَّارِ .
أُحيي ليالي التِّمِّ وهي تُميتُني ... ويُميتهنَّ تبلُّجُ الأسحارِ .
والصبحُ قد غمرَ النجومَ كأنَّهُ ... سيلٌ كما فطفا على النُوَّارِ .
لو كنتَ تُمنعُ خاض دونك فتيةٌ ... منَّا بُحُرَ عواملٍ وشِفارِ .
فدَحَوْا فُويقَ الأرضِ أرضاً من دمٍ ... ثمَّ انثنَوا فبنَوا سماء غُبارِ .
قومٌ إِذا لبسوا الدروع حسبتَها ... سُحُباً مُزَرَّرةً على أقمارِ .
وترى سيوفَ الدارعينَ كأنَّها ... خُلُجٌ تُمَدُّ بها أكفُّ بحارِ .
لو أشرعوا أيمانهم من طولها ... طعنوا بها عِوَضَ القنا الخطَّارِ .
شُوسٌ إِذا عدِموا الوغى انتجعوا لها ... في كلِّ آنٍ نُجعَةَ الأمطارِ .
جنبوا الجيادَ إلى المطيِّ فراوحوا ... بين السروج هناك والأكوارِ .
وكأنَّهم ملأوا عِيابَ دروعهمْ ... وغُمودَ أنصُلِهم سرابَ قفارِ .
وكأنَّما صَنَعُ السوابغِ غَرَّهُ ... ماءُ الحديدِ فصاغَ ماءَ قَرارِ .
زَرَداً وأحكم كلَّ مَوْصِلِ حلقةٍ ... بحَبابةٍ في موضع المسمارِ .
فتدرَّعوا بمتون ماءٍ راكدٍ ... وتقنَّعوا بحَباب ماءٍ جارِ .
أُسْدٌ ولكن يؤثرون بزادهمْ ... والأُسدُ ليس تدين بالإيثارِ .
يتعطَّفونَ على المُجاورِ فيهمُ ... بالمُنْفِسات تعطُّفَ الآظارِ .
يتزيَّنُ النادي بحُسن وجوههمْ ... كتزيُّنِ الهالات بالأقمارِ .
من كلِّ مَن جعل الظُّبى أنصارَهُ ... وكَرُمْنَ فاستغنى عنِ الأنصارِ .
والليثُ إن ساورْتَهُ لم يَتِّكِل ... إلاَّ على الأنيابِ والأظفارِ .
وإذا هو اعتقل القناةَ حسبتَها ... صِلاًّ تأبَّطَهُ هِزَبْرٌ ضارِ .
زَرَدُ الدِّلاصِ من الطِّعان برمحهِ ... مثل الأساور في يد الإسوارِ .
ويجرُّ ثمَّ يجرُّ صعدَةَ رمحِهِ ... في الجحفلِ المتضايقِ الجرَّارِ .
ما بين ثوبٍ بالدماء مُضَمَّخٍ ... خَلَقٍ ونقعٍ بالطِّراد مُثارِ