علي بن محمد بن الفتح بن أبي العَصَب الشاعر البغداذي المِلْحيّ - نسبةً إلى الملح - مولى المتوكِّل على الله . سمع وروى . وثَّقه الخطيب . توفي سنة أربع وسبعين وثلاث مائة . كتب إليه ابن سُكَّرة الهاشميّ : .
يا صديقاً أفادَينه زمانٌ ... فيه ضيقٌ بالأصدقاء وشُحُّ .
بين شخصي وبين شخصك بُعْدٌ ... غيرَ أنَّ الخيالَ بالوصلِ سمحُ .
إنما أوجب التباعد منّا ... أنني سُكَّرٌ وأنَّك مِلْحُ .
فكتب ابن أبي العصب الجواب : .
هل يقول الإخوان يوماً لخلٍّ ... شابَ منهُ محضَ المودَّةِ قَدْحُ .
بيننا سُكَّرٌ فلا تُفْسدَنْهُأم يقولون بيننا وَيْكَ ملحُ .
ابن فرحون المَدَني .
علي بن محمد بن فرحون نور الدين أبو الحسن اليَعمري المَدَني المالكي . قدم علينا دمشق ورأيته مرّات سنة إحدى وأربعين وسبع مائة وأنشدني كثيراً من لفظه لنفسه . كتب إليَّ يطلب مني تمام شرح لامية العجم الذي وضعته وسميته غيث الأدب الذي انسجم : .
قد طال هذا الوعدُ يا سيِّدي ... فانظرْ لمقصودي وكن مسعدي .
أنتَ صلاحُ الدين حقًّا فكنْ ... صلاحَ دنيايَ التي تَعْتَدي .
وجُد بغيثِ الأدب المُنْتَقىواسقِ رعاك الله قلباً صدي .
بدأت بالإحسان فاختم به ... يا خاتم الخيرِ ويا مُبْتَدي .
فكتبت الجواب إليه معتذراً عن تجهيزه ؛ لأنه كان في العاريَّة : .
أقسمتُ لو كان الذي تبتغي ... عنديَ لم أمنعْهُ من سيِّدي .
يا من له نظمٌ علا ذِروةً ... وهادُها تعلو على الفَرْقَدِ .
لقد تطوَّلتَ ولم تَقتصر ... ومن بدا في فضله يزدَدِ .
وأينَ من نال نهاياتِهِممّن كما قلتَ له مبتدي .
وصنع هو للامية العجم أعجازاً وصدوراً أوقفني عليها بخطه وطلب مني أن أكتب عليها تقريضاً فكتبت عليها حسبما قصده : وقفتُ على هذا النمط الغريب والأسلوب الذي ما سلك شِعبه أديب والألفاظ التي تجيد الجيد وما تُريب أنها حَلْيُ التَّريب والعبارة التي هي أشهى من عصر شبابٍ ما شيب بمشيب والنظم الذي شاب منه الوليد ونقص أبو تمامٍ فليس بحبيب والمعاني التي هي أوقع في النفوس من وصل حبيب نزّهتْه اللذةُ عن الرقيب القريب والسطور التي هي جداول الروض والهمزةُ على ألفها حمامةٌ على قضيب : .
وفي تَعَبٍ من يحسُدُ الشمسَ ضوءها ... ويزعُمُ أن يأتي لها بضريب .
لقد أمتع ناظمها أمتع الله بمحاسنه وحلّى جيدَ الزمان بدُرِّه الذي يُثيره من معادنه فجعل لآفاقها مشارقَ ومغارب ولبيوتها في شعاب القلوب مراكز ومضارب كيف أفادها أعجازاً وصدوراً وكيف تنوَّع في الحسن حتَّى أفاد الخصور أردافاً وركَّب على الأرداف خصورا وكيف اقتدر على البلاغة فأطلع في أفلاكها شموساً وبدورا فلو عاينها الطُغرائي C جعلها لمنشور ديوانه طُغرى وعلم أن روض نظمه إن كان فيه زهرة فهذا أُفُقٌ أطلع في كل منزلة منه شمساً وبدراً وزُهَرَة . فالله يُعِزُّ حمى الأدب منه بفارس الجولة ويُديم لأيامه بفوائده خير دولة ويلُمُّ شَعَثَ بنيه الذين لا صون لهم ولا صولة ويمتّعهم بمحاسنه التي لا تُذكر معها أبياتُ عَزَّة ولا أطلال خَوْلة بمَنَّة وكرمه إن شَاءَ الله تعالى .
وقد أثبتُّ هذه الأعجاز والصدور بمجموعها في الجزء العشرين من كتاب التذكرة . وطلب مني المقامات الجَزَرية ليقف عليها فجهّزتها إليه فأعادها وقد كتب عليها بخطه يقول : الفقيرُ إلى الله تعالى عليّ بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن فرحون اليَعمَري المدني عفا الله عنه ؛ لما نظرت مقامات الجَزَري رأيت ألفاظها حوشيّة وحُلَل أسجاعها غير مطرَّزة ولا موشيّة لم يَسْقِ روضها ماءُ البلاغة المستعذَب فما أنبتت أرضُها زهرَ اللفظ المهذَّب ومع هذا فطالما كلَّف نفسه قيها وعذَّب وعندي أن من لم يستحسن كذبَها لم يُكَذَّب : .
ظنَّ الفصاحةَ في الغريب فأثَرَهْ ... فَلَكَمْ له من فِقرة هي فاقِرهْ .
قَرَحَتْ قريحتهُ وفاتَ قبولُها ... يا كرّةً من بعد ذلك خاسِرهْ .
وقد أثبتُّ منها عندي المقامةَ الأولى ورأيتُ أنَّ ترك ما سواها أولى :