وأخذ ملوك اليمن الذين أزال ملكهم وأسكنهم معه وولّى في الحصون غيرهم واختطَّ في صنعاء عدّة قصور . وحلف أن لا يولِّي تهامة إلاَّ مَن وزن مائة ألف دينار فوزنت له زوجته أسماء عن أخيها أسعد شهاب الدين ؛ فولاّه وقال لها : يا مولاتنا أنَّى لكِ هذا ؟ قالت : " هو من عند الله " ...الآية ؛ فتبسم وعلم أنه من خزانته فقبضه وقال : " هذه بضاعتنا ردَّت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا " .
وعزم سنة ثلاث وسبعين على الحج فأخذ معه الملوك الذين يخافهم وزوجتَه واستخلف عِوَضه ولده الملك المكرَّم أحمد وهو ولدها أيضاً وتوجَّه في ألفي فارس . فلمَّا كان بالمَهْجَم ونزل في ظاهرها بضيعة يقال لها أمّ الدُّهيم وبئر أمّ مَعْبَد وخيَّمت عساكره لم يشعر الناس حتَّى قيل لهم : قُتل الصليحي ؛ فانذعر الناس وكشفوا عن هذا الأمر . وكان سعيد الأحول بن نجاح المذكور قد استتر في زَبيد وخرج هو وأخوه ومعهما سبعون راجلاً بلا مركوب ولا سلاح بل مع كل واحد جريدة في رأسها مسمار حديد وسلكوا غير الطريق الجادَّة وكان بينهم وبين المهجم ثلاث ليالٍ للمُجِدّ . وكان الصليحي سمع بخروجهم فسيَّر خمسة آلاف حربة من الحبشة لقتالهم فاختلفوا في الطريق فوصل سعيد ومن معه إلى أطراف المخيم وقد أخذ منهم الحفا والتعب وقلَّة المادَّة ؛ فظنَّ الناس أنَّهم من جملة عبيد العسكر ولم يشعر بهم إلاَّ عبد الله أخو علي الصليحي فقال له : اركب فإنَّ هذا الأحول سعيد بن نجاح . وركب عبد الله فقال الصليحي : إنِّي لا أموت إلاَّ بالدُّهيم وبئر أمّ مَعْبَد معتقداً أنَّها أمّ معبد التي نزل بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمَّا هاجر إلى المدينة . فقال له رجل من أصحابه : قاتلْ عن نفسك فهذه والله الدُّهيم وبئر أمّ مَعبد . فلمَّا سمع ذلك زمِع ولحقه اليأس من الحياة وبال ولم يبرح من مكانه حتَّى قُطع رأسه بسيفه وقُتل أخوه وسائر الصُّليحيِّين وذلك ثامن ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وأربع مائة .
ثمَّ أرسل سعيد إلى الخمسة آلاف الذين أرسلهم الصليحي لقتاله يخبرهم بقتل الصليحي وقد أخذتُ بثأر أبي وأنا رجل منكم . فقدموا عليه وأطاعوه واستعان بهم على قتال عسكر الصليحي ورفع رأس الصليحي على عود المظلَّة . وقرأ القارئ : " اللهم مالِك المُلك تُؤتي الملكَ من تشاء " ...الآية .
ورجع إلى زبيد وقد جاز الغنائم وملك ملكاً عقيماً وملك بلاد تهامة . ولم يزل كذلك إلى أن قُتل سنة إحدى وثمانين وأربع مائة بتدبير الحُرَّة وهي امرأة من الصُّليحيِّين وخبر ذلك يطول . وفي رفع رأس الصليحي قال العُثماني القاضي : .
بكرتْ مظلَّته عليه فلم ترح ... إلاَّ على الملك الأجلِّ سعيدِها .
ما كان أقبحَ وجهَه في ظلّها ... ما كان أحسن رأسَه في عودِها .
سودُ الأراقم قاتلت أُسْدَ الشرى ... وارحمتا لأسودها من سودِها .
ومن شعر الصليحي المذكور : .
أنكحتُ بيضَ الهند سمرَ رقابهم ... فرؤوسهم دون النثار نُثارُ .
وكذا العُلَى لا يستباح نكاحُها ... إلاَّ بحيث تطلَّق الأعمارُ .
ومنه : .
وألذُّ من قرع المثاني عنده ... في الحربِ ألْجِمْ يا غلامُ وأسْرِجِ .
خيلٌ بأقصى حضرموتٍ أَسْرُها ... وزئيرها بين العراق ومَنْبِجِ .
ومن شعر الصليحي قصيدةٌ أوَّلها : .
لباسيَ درعي ... لا لباسُ الغلائل .
ومنها : .
وسَرجي لجامي والحسامُ مضاجعي ... وعُدة حربي لا ذواتُ الخلاخلِ .
ورمحي يعاطيني البعيد لأنّني ... تناولت ما أعيا على المتناولِ .
ولي همَّة تسمو على كل همَّةٍ ... ولي أمل على كل آملِ .
ولي من بني قحطان أنصارُ دولةٍ ... بطاريقُ من أنجاد كلّ القبائلِ .
فأجابه الحسين بن يحيى الحكَّاك المكِّي بقوله : .
رُوَيدَك ليس الحقُّ ينفى بباطلٍ ... وليس مُجِدٌّ في الأُمور كهازلِ .
كزعمك أن الدرع لِبْسُكَ في الوغى ... وذاك لجبنٍ فيك غيرِ مُزايلِ .
وهل ينفعنَّ السيفُ يوماً ضجيعَهُ ... إِذا لم يضاجعه بيقظة باسلِ