حكي أن السلطان لما عزم على الخروج إلى الشام لفتح القدس والسواحل قرر أخاه العادل أن يكون في مصر نائباً وطلب الفاضل يوماً وهو في دور الحريم فدخل إليه وتحدثا فيما يحتاج إليه اعتماده في غيبته وهو يكتب ذلك تذكرة فلما أراد الخروج طلب أن يعود من المكان الذي دخل منه فقال له خادم : يا مولانا ! .
بسم الله من ها هنا ! .
فما أمكن الفاضل إلا الذهاب خلفه فلما جاء إلى المكان الذي يلبس فيه مداسه وجد العزيز قد أخذها من مكان قلعها ونقلها إلى ذلك المكان فلما رأى ذلك عاد من فوره إلى السلطان وقال : يا مولانا ؟ ! .
فكر الملوك في أن هذه الحركة المباركة ما يستغني السلطان عن أن يكون العادل معه يستضيء برأيه وبخبرته ! .
فقال له : ومصر من يكون فيها ؟ فقال الفاضل : الملك العزيز ! .
فقال : هو صغير السن ! .
فقال : نحن في خدمته والهجن عماله والمكاتبات ما تنقطع ومهما اعتمدناه طالعناك به ! .
وتكون قد رشحته للملك وينتشئ في أيامك ! .
وحسن له ذلك فقرر العزيز في مصر وكشط اسم العادل وعاد . فلما رأى العزيز قال : يا مولانا تقدمة مداس المملوك بملك مصر ما هو كثير ! .
ولم يزل نائبه إلى أن استقل بها بعد وفاة أبيه . ولهذا لما مات السلطان صلاح الدين بدمشق توجه إلى مصر رغبة في العزيز .
وسمع الحديث من السلفي وأبي الطاهر ابن عون وعبد الله بن بري وحدث بالإسكندرية .
وكان العزيز في آخر أمره قد توجه إلى الفيوم فطرد فرسه وراء صيد فتقطر به فأصابته الحمى وحمل إلى القاهرة فتوفي بها . وكتب الفاضل إلى عمه الملك العادل رسالة يعزيه ؛ منها : فنقول في توديع النعمة بالملك العزيز لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قول الصابرين ونقول في استيفائها بالملك العادل الحمد لله رب العالمين قول الشاكرين . وقد كان من أمر هذه الحادثة ما قطع كل قلب وجلب كل كرب ومثل هذه الواقعة لكل أحد ولا سيما لأمثال الملوك مواعظ من الموت بليغة وأبلغها ما كان في شباب الملوك ! .
فرحم الله ذلك الوجه ثم السبيل يسره : .
وإذا محاسن أوجه بليت ... فعفا الثرى عن وجهه الحسن .
والمملوك في حال تسطير هذه الخدمة جامع بين مرضي قلب وجسد ووجع أطراف وغليل كبد ؛ فقد فجع المملوك بهذا المولى والعهد بوالده غير بعيد والأسى في كل يوم جديد . وما كان ليندمل ذلك القرح حتى أعقبه هذا الجرح فالله تعالى لا يعدم المسلمين سلطانهم الملك العادل السلوة كما لا يعدمهم بنبيهم A الأسوة .
ودفن بالقرافة الصغرى في قبة الإمام الشافعي ورتب بعده ولده الملك الناصر محمد وأتابكه بهاء الدين قراقوش . ولابن الساعاتي فيه أمداح كثيرة وقال يرثيه من قصيدة طويلة أولها : .
خلا الدست من ذاك الجلال الممنع ... فسلم على الدنيا سلام مودع .
مضى بعدما عمت سراياه والندى ... وسار مسير الشمس في كل موضع .
وأطلع في الآفاق زرق رماحه ... نجوماً وما زهر النجوم بطلع .
وما كان إلا البدر غاب ولم يعد ... كعود أخيه البدر يوماً لمطلع .
فجعنا بأندى من سحاب بنانه ... وأجرأ من ليث العرين وأشجع .
يقابل منه البدر ليلة تمه ... منيراً وندعو منه أكرم من دعي .
شبيبة دبت عقارب ليلها ... ومن يسر في ليل الشبيبة يلسع .
تولى فلا درع الغمام بحافل ... غزير ولا وادي البلاد بممرع .
وقد كان تبكيه السيوف بأدمع ... هواطل لو تبكي السيوف بأدمع .
قفا واندبا غمداً خلا من حسامه ... ونوحا على ربع من الملك بلقع .
شجا رزء عثمان وعم مصابه ... فأثر في السني والمتشيع .
فلا ماء إلا من جفون قريحة ... ولا نار إلا في قلوب وأضلع .
ثوى الجود والملك العزيز بحفرة ... ويا لهما من فرقة وتجمع .
وقد كانت الدنيا جميعاً بكفه ... فغودر منها في ثلاثة أذرع .
لقد سد ثغر الدين والملك بابنه ... ورد إلى كفء من القوم مقنع .
هناك حمى الإسلام ليس بمهمل ... سوام وشمل الملك غير مروع