حكى لي القاضي شهاب الدين ابن فضل الله أنه بلغه أن القاضي علاء الدين ابن عبد الظاهر والقاضي نجم الدين ابن الأثير قعدا يوماً على باب القلة وأجري ذكر كريم الدين ومكارمه فقال علاء الدين : ما مكارمه إلا لمن يخافه ! .
فهو يصانع بذلك عن نفسه ! .
فما كان بعد يومين أو ثلاث حتى احتاج نجم الدين ابن الأثير إلى رصاص يستعمله في قدور حمام فكتب ورقة إلى كريم الدين يسأل بيع جملة من الرصاص بديوان الخاص فحمل إليه جملة كبيرة فضل له عما احتاج إليه ثلاثون قنطاراً ولم يأخذ عن ذاك ثمناً . وأما علاء الدين فإنه تركه يوماً وهو في بستانه وانحدر إليه في البحر فلم يشعر به إلا وقد أرست حراقته على زريبة علاء الدين فنزل إليه وتلقاه واندهش لقدومه فحلف أنه ما يأكل ما يحضره إليه من خارج البستان وإلا مهما كان طعام ذلك النهار يحضره ! .
فأحضر له ما اتفق حضوره ! .
وقال : يا مولانا أنا ما أعلمتك بمجيئي ولكن أنا مثل اليوم ضيفك ! .
ولكن لا ألتقي هذه العمارة على هذه الصورة وشرع رتبها على ما أراد وراح من عنده فلم يشعر علاء الدين ذلك اليوم إلا بالمراكب قد أرست على زريبته بأنواع الأخشاب والطوب وأفلاق النخل والجبس والمهندسين والصناع والفعول وكلما يحتاج إليه وأخذوا في هدم ذلك المكان وشرعوا في بنائه على ما قاله لهم فلم يأت على ذلك خمسة أيام أو ستة إلا وقد تكامل ورخم وزخرف وفرغ منه . فلما كان قبل ذلك الميعاد بيوم جاء إليه مركب موسق بأنواع الغنم والإوز والدجاج الفايق وغيره والسكر والأرز وجميع ما يطبخ حتى المخافي والماعون الصيني والجبن ومن يقليه وعمل الطعام الفايق المختلف ومد السماط العظيم ونزل القاضي كريم الدين ومعه من يختاره وجاء إليه وجد الدار قد عمرت على ما أراد والطعام قد مد سماطه فأكل هو ومن معه وأحضر أنواع الفاكهة والحلوى والمشروب . ولما فرغ من ذلك أحضر بقجة كبيرة أخرج منها ما يصلح للنساء من القماش الإسكندري وغيره وما يصلح لملبوس علاء الدين وقال : هذه خمسة آلاف درهم يكسو بها مولانا عبيده وجواريه على ما يراه وهذا توقيع تصدق به مولانا السلطان على مولانا فيه زيادة معلوم دراهم وغلة وكسوة ولحم وجراية ونزل يركب فنزل معه فلما ركب وفارقه قال : يا مولانا علاء الدين والله هذه الأشياء أنا أفعلها طبعاً وأنا لا أرجوك ولا أخافك ! .
وعلى الجملة فما سمعت عنه بالديار المصرية إلا كل مكرمة غير الأخرى بيتدع فعلها ولم نسمعها عن غيره وهو الذي صدق أخبار البرامكة ومن رياسته أنه كان إذا قال لك نعم كانت نعم وإذا قال لك لا فهي لا ! .
وهذه تمام الرياسة . قدم من الثغر نوبة حريق القاهرة ونسب إليه ميل إلى النصارى فغوث به الغوغاء ورجموه فغضب السلطان وقطع أيدي أربعة وتزاحم الخلق واختنق رجل وكان إذا دخل إلى البيمارستان المنصوري وقد ولي نظره يتصدق بعشرة آلاف درهم فمات في مرة ثلاثة أنفس على ما قيل . وقيل إنه شرب مرة دواء فجمع كل ما دخل القاهرة ومصر من الورد وحمل إلى داره وبسط إلى كراسي بيت الماء وداس الناس ما داسوه وأخذ ما فضل وأباعه الغلمان للبيمارستان بمبلغ ثلاثة آلاف درهم .
وكان وقوراً عاقلاً داهية جزل الرأي بعيد الغور عمر بالزريبة جامعاُ وميضأة وعمر في طرق الرمل البيارات وأصلح الطرق وعمر جامع القبيبات والقابون ووقف عليهما . ثم انحرف عنه السلطان ونكبه وأقام في بيت الأمير سيف الدين أرغون النائب ثلاثة أيام وكان الأمير سيف الدين قجليس يروح ويجيء إليه في الرسائل عن السلطان . ثم رسم بنزوله إلى القرافة . ثم إنه أخرج إلى الشوبك ثم إلى القدس ثم طلب إلى مصر وجهز إلى أسوان . وبعد قليل أصبح مشنوقاً بعمامته . وكان يحترم العلماء وسمع البخاري وقيل إنه لما أحس بقتله صلى ركعتين وقال : هاتوا ! .
عشنا سعداء ومتنا شهداء ! .
وكان الناس يقولون : ما عمل أحد مع أحد ما عمله السلطان مع كريم الدين أعطاه الدنيا والآخرة ! .
C تعالى .
وكانت واقعته سنة أربع وعشرين وسبع ماية . ومناقبه كثيرة إلى الغية ومكارمه جزيلة لا تحصى وهذا أنموذج منها .
ومن مدح شرف الدين القدسي فيه قوله : .
إذا ما بار فضلك عند قوم ... قصدتهم ولم تظفر بطائل .
فخلهم خلاك الذم وأقصد ... كريم الدين فهو أبو الفضائل