قلت : في ولايته خطابة حلب نظر وكأنهم غلطوا في مولده أيضاً . وخطبه أحسن من كل الخطب التي جاءت بعده وجميع سجعها معرب بخلاف المقامات فإنها لا يلتزم الحريري إعرابها اتكالاً على الوقوف على الساكن ويشم من بعض ألفاظها روائح الاعتزال يظهر ذلك للفضلاء مثل قوله : ومن وجب له الثواب وحق عليه العقاب وغيره ذلك .
وذكر الشيخ تاج الدين الكندي بإسناده إلى الخطيب قال : لما عملت خطبة المنام وخطبت بها يوم الجمعة رأيت ليلة السبت في منامي كأني بظاهر ميافارقين عند الجبانة ورأيت بها جمعاً كثيراً بين القبور فقلت : ما هذا الجمع ؟ فقال لي قائل : هذا رسول الله A ومعه الصحابة فقصدت إليه لأسلم عليه فلما دنوت منه التفت إلي فرآني فقال : يا خطيب الخطباء كيف تقول وأومأ إلى القبور . قلت : لا يخبرون بما إليه آلوا ولو قدروا على المقال لقالوا قد شربوا من الموت كأساً مرة ولم يفقدوا من أعمالهم ذرة وآلى عليهم الدهر ألية برة أن لا يجعل لهم إلى دار الدنيا كرة كأنهم لم يكونوا للعيون قرة ولم يعدوا في الأحياء مرة أسكتهم والله الذي أنطقهم وأبادهم الذي خلقهم وسيجدهم كما أخلقهم ويجمعهم كما فرقهم يوم يعيد الله العالمين خلقاً جديداً ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً يوم تكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً وأومأت عند قولي على الناس إلى الصحابة Bهم وعند قولي شهيداً إلى الرسول A " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً " فقال لي : أحسنت ادنه ادنه فدنوت منه A فأخذ وجهي فقبله وتفل في في وقال لي : وفقك الله قال : فانتبهت من النوم وبي من السرور ما يجل عن الوصف فأخبرت أهلي ما رأيت .
قال الكندي بروايته : وبقي الخطيب بعد هذا المنام ثلاثة أيام لا يطعم طعاماً ولا يشتهيه ويوجد من فيه مثل رائحة المسك ولم يعش إلا مدة يسيرة . ولما استيقظ الخطيب من منامه كان على وجهه أثر نور وبهجة لم يكن قبل ذلك وقص رؤياه على الناس وقال : سماني رسول الله A خطيباً وعاش بعد ذلك ثمانية عشر يوماً لا يستطعم فيها طعاماً ولا شراباً من أجل تلك التفلة وبركتها .
وقال الوزير المغربي : رأيت الخطيب بن نباتة في المنام بعد موته فقلت له : ما فعل الله بك ؟ فقال : دفع لي ورقة فيها سطران بالأحمر وهما : السريع .
قد كان أمن لك من قبل ذا ... واليوم أضحى لك أمنان .
والصفح لا يحسن عن محسن ... وإنما يحسن عن جان .
قلت : وهو أقدر الناس على الترصيع وتنزيل الآيات في كلامه . ويقال عن المتنبي وغيره كانوا تحت منبره فقال : أيها الناس تجهزوا فقد ضرب فيكم بوق الرحيل فقالوا : أفحم الخطيب ما بقي يأتي بعد هذه السجعة بمثلها فقال : وبرزوا فقد قدمت لكم نوق التحويل فزادهم الاستعارة والترصيع .
وقد أورد عليه تاج الدين الكندي وواخذه في أماكن من فساد المعنى والإعراب والتصريف واللغة وأجاب عنه الموفق عبد اللطيف وقد كتبت بها أنا ثلاث نسخ وكتبت على كل منها حواشي الكندي وقرأتها طلباً للرواية على العلامة الشيخ جمال الدين المزي سنة خمس وثلاثين بالأشرفية دار الحديث بدمشق قلت له : أخبرك بهذا الديوان سماعاً عليه الشيخ الإمام العلامة شمس الدين أبو محمد عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي بسماعه من الشيخ العلامة تاج الدين أبي اليمن زيد الكندي بقراءته على الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن نبهان الرقي ببغداذ بروايته عن أبي القاسم عن أبيه أبي الفرج عن أبيه أبي طاهر يحيى عن أبيه عبد الرحيم بن نباتة الخطيب وسماعاً لستة وثلاثين خطبة من أول الديوان من الشيخ الإمام فخر الدين أبي الحسين علي بن أحمد بن عبد الواحد البخاري المقدسي بسماعه فاقر به وأجاز لي ولجماعة سمعوها بقراءتي .
عبد الرحيم سبط ابن فضلان