وكان صدراً معظماً محتشماً ذا دين وتعبد وأوراد وسيرة حميدة لولا ما كان فيه من التيه . وكان إماماً مفتياً مدرساً عالماً بالمذهب عارفاً بالأدب وهو أول حنفي ولي خطابة جامع الحاكم ودرس بظاهرية القاهرة وحضره السلطان وهو لم يأت بعد فطلبه السلطان فقيل حتى يقضي ورد الضحى ثم جاء وقد تكامل الناس فقام كلهم ولم يقم هو لأحد . ثم قدم على قضاء الشام وهو بزي الوزراء والرؤساء لم يعبأ بالمنصب ولا غير زيه ولا وسع كمه ومر بوادي الربيعة وهو مخوف فنزل وصلى ورده ولما فرغ ركب وسار وكان يتواضع للصالحين ويعتقد فيهم . ودرس بدمشق في عدة مدارس . وسمع منه ابن الظاهري والدمياطي والحارثي وشرف الدين الحسن بن الصيرفي وقطب الدين بن القسطلاني وبهاء الدين يوسف بن العجمي وابن العطار وابن جعوان وجماعة وأجاز للشيخ شمس الدين مروياته وتوفي في سادس عشر شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة ودفن بتربته قبالة جوسق ابن العديم عند زاوية الحريري وكان يوماً مشهوداً . ورثاه الشعراء منهم العلامة شهاب الدين محمود بقصيدتين إحداهما أولها : الوافر .
أقم يا ساري الخطب الذميم ... فقد أدركت مجد بني العديم .
هدمت وكنت تقصر عنه بيتاً ... له شرف يطول على النجوم .
قصدت ذوي الجمال فعاجلتهم ... يداك بحل عقدهم النظيم .
أتدري من أصبت وكيف أمست ... بك العلياء دامية الكلوم .
وكيف رفعت قدر الجهل لما ... خفضت منارة أعلام العلوم .
ومكنت الصغار من الأيامى ... وسلطت الشظاء على اليتيم .
ولم تترك لوفد الرفد أيدي ... شطاك سوى البكاء على الرسوم .
عثرت وقد ضللت بطود علم ... أما تمشي على السنن القويم .
بمن أودى بصرف الدهر قدماً ... فثار عليه للثأر القديم .
بمن بسط الندى فأفاض عدلا ... يكف الليث عن ظلم الظلوم .
صحيح الزهد غادره تقاه ... وخوف الله كالنضو السقيم .
فكم قد بات وهو من الخطايا ... سليم النفس في ليل السليم .
وكم أورى هداه المستضيء ... وكم أروى نداه غليل هيم .
مضى وسراح منزله الثريا ... ومورد بيته قلب الغيوم .
وودع والثناء على علاه ... يفوق مضاعف النبت العميم .
وساد وكان للفضلاء منه ... حنو المرضعات على اليتيم .
وغاب فأعدم الأسماع لفظاً ... أرق من المدامة للنديم .
أمجد الدين دعوة مستنيم ... لأنواع الكآبة مستديم .
حللت من الجنان أجل دار ... وقلبي حل بعدك في الجحيم .
فما لي غير حزني من صديق ... ولا غير المدامع من حميم .
إذا ما شام نوء الأنس طرفي ... ليمطرني اهتمامي بالهموم .
سقاك من الجنان رحيق لطف ... يدار عليك مفضوض الختوم .
ولا برحت ركاب المزن تسري ... إلى مثواك مطلقة الرسيم .
ورثاه بقصيدة أخرى جيدة جاء منها أخيراً : الطويل .
أمر على مغناه كي يذهب الأسى ... كعادته الأولى فيغري ولا يغني .
وتنثر عيني لؤلؤاً كان كلما ... يساقطه من فيه تلقطه أذني .
وأحسد عجم الطير فيه لأنها ... تزيد على إعراب لفظي باللحن .
وأقسم أن الفضل مات لموته ... ويخطر في ذهني أخوه فأستثني .
أبو القاسم الأنصاري .
عبد الرحمن بن عمر بن عذرة أبو القاسم الأنصاري القاضي من أهل الجزيرة الخضراء كان خطيباً مفوهاً واستعمل في قضاء الجزيرة توفي بها سنة ست وست مائة . أورد له ابن الأبار في تحفة القادم من أبيات راجع بها أبا عمرو بن عتاب الشريشي : الطويل .
ترفق على النفس النفيسة إنها ... أجل نهى من أن تحملها هما .
كبير عليها أن تهيم بخطة ... وقد عظمت قدراً وقد رسخت حلما .
وقد طلعت شمساً إلى كل ناظر ... وما خفيت إلا على ناظر أعمى