وكان قد احتاج إلى الأموال عند محاصرة بغداد فكتب إلى المأمون يطلبها فكتب إليه إلى خالد بن جيلويه الكاتب ليقرضه ما يحتاج إليه فامتنع خالد من ذلك فلما أخذ طاهر بغداد أحضر خالداً وقال : لأقتلنك شر قتلة فبذل من المال شيئاً كثيراً فلم يقبله منه فقال خالد : قد قلت شيئاً فاسمعه ثم شأنك وما أردت فقال طاهر : هات فأنشده : .
زعموا بأن الصقر صادف مرة ... عصفور بر ساقه المقدور .
فتكلم العصفور تحت جناحه ... والصقر منقض عليه يطير .
ما كنت يا هذا لمثلك لقمة ... ولئن شويت فإنني لحقير .
فتهاون الصقر المدل بصيده ... كرماً فأفلت ذلك العصفور .
فقال طاهر : أحسنت وعفا عنه . ويحكى أن إسماعيل بن جرير البجلي كان مداحاً لطاهر فقيل له : إن إسماعيل يسرق الشعر يمدحك به فأحب طاهر امتحانه فقال له : لتهجوني فامتنع فألزمه بذلك فكتب إليه : .
رأيتك لا ترى إلا بعين ... وعينك لا ترى إلا قليلا .
فأما إذ أصبت بفرد عين ... فخذ من عينك الأخرى كفيلا .
فقد أيقنت أنك عن قريب ... بظهر الغيب تلتمس السبيلا .
فقال لما وقف عليها : احذر أن تنشدها أحداً ومزق الورقة .
ولما استقل المأمون بالأمر بعد قتل أخيه كتب لطاهر بن الحسين وهو مقيم ببغداد بأن يسلم إلى الحسن بن سهل جميع ما افتتحه من البلاد وهي : العراق وبلاد الجبل وفارس والأهواز والحجاز واليمن ون يتوجه هو إلى الرقة وولاه الموصل وبلاد الجزيرة الفراتية والشام والمغرب وذلك في بقية ثمان وتسعين ومائة ؛ وكان المأمون قد ولاه خراسان فوردها سنة ست وقيل سنة خمس ومائتين واستخلف ابنه طلحة هكذا قال السلامي في أخبار ولاة خراسان ؛ وقال غيره : إنه خلع طاعة المأمون وجاءت كتب البريد من خراسان تتضمن ذلك فقلق المأمون قلقاً زائداً ثم جاءته كتب البريد ثاني يوم أنه أصابته عقيب ما خلع الطاعة حمى فوجد في فراشه ميتاً .
وحكي أن طاهراً دخل يوماً على المأمون في حاجة فقضاها وبكى المأمون حتى اغرورقت عيناه بالدموع فقال طاهر : يا أمير المؤمنين لم تبكي - لا أبكى الله عينك - وقد دانت لك الدنيا وبلغت الأماني ؟ فقال : أبكي لا عن ذل ولا عن حزن ولكن لا تخلو نفس من شجن ؛ فاغتم طاهر وقال لحسين الخادم - وكان يحجب المأمون في خلواته - : أريد أن تسأل أمير المؤمنين عن سبب بكائه وانفذ طاهر للخادم مائتي ألف درهم ؛ فلما كان المأمون في بعض خلواته وهو طيب الخاطر سأله حسين الخادم عن سبب بكائه ذلك اليوم فقال : هو أمر إن خرج من رأسك أخذته فقال : يا سيدي ومتى بحت لك بسر ؟ فقال : إني ذكرت محمداً أخي وما ناله من الذلة فخنقتني العبرة ولن يفوت طاهراً مني ما يكره ؛ فاخبر حسين طاهراً بذلك فركب طاهر إلى أحمد بن آبي خالد فقال : إن الثناء مني ليس برخيص وإن المعروف عندي ليس بضائع فأعني على المأمون وغيبني عنه ؛ فركب ابن أبي خالد إلى المأمون وقال : إني لم أنم البارحة قال : ولم ؟ قال : لأنك وليت خراسان غسان وهو ومن معه أكلة رأس وأخاف أن يصطلمه مصطلم فقال المأمون : فمن ترى ؟ قال : طاهر فقال : هو جائع فقال : أنا ضامن فدعا به المأمون وعقد له لواء على خراسان من ساعته وأهدى له خادماً كان رباه وأمره إن رأى منه ما يريبه أن يسمه . فلما تمكن طاهر من الولاية قطع الخطبة لأنه صعد المنبر وخطب يوم الجمعة فلما بلغ ذكر الخليفة أمسك فكتب إلى المأمون بذلك على خيل البريد وأصبح طاهر يوم السبت ميتاً فكتب إليه بذلك فوصلت الخريطة الأولى إلى المأمون فدعا أحمد بن أبي خالد وقال : اشخص الآن فأت به كما ضمنته وأكرهه على المسير في يومه ثم بعد شدائد أذن له في المبيت ؛ ثم وافت الخريطة الثانية في يومه بموته قيل إن الخادم سمه في كامخ . ثم إن المأمون استخلف ولده طلحة على خراسان قيل إنه خليفة بها لأخيه عبد الله بن طاهر .
وكانت وفاة طاهر بن الحسين سنة سبع ومائتين بمرو ومولده سنة تسع وخمسين ومائة