قال أبو عبيد : هذا ما حكاه لي . وأما ما شاهدته أنا من أحواله فإنه كان بجرجان رجلٌ يقال له أبو محمد الشيرازي يحب هذه العلوم فاشترى للشيخ داراً في جواره وأنزله إليه وأنا أختلف إليه في كل يوم أقرأ المجسطي وأستملي المنطق ؛ فأملى علي : المختصر الأوسط وصنف لأبي محمد كتاب : المبدأ والمعاد وكتاب الأرصاد الكلية . وصنف هناك كتباً كثيرة ؛ كأول القانون و مختصر المجسطي وكثيراً من الرسائل .
ثم صنف في أرض الجبل بقية كتبه وذكر منها جملة . ثم انتقل إلى الري واتصل بخدمة السيدة وابنها مجد الدولة وعرفوه بسبب كتب وصلت معه تتضمن تعريف قدره . وكان بمجد الدولة إذ ذاك علة السوداء فاشتغل بمداواته وصنف هناك كتاب المعاد . ثم اتفقت له أسباب أوجبت خروجه إلى قزوين ومنها همذان واتفقت له معرفة شمس الدولة وحضر مجلسه بسبب قولنج أصابه وعالجه فشفاه الله وفاز من ذلك المجلس بخلعٍ كثيرة وصار من ندمائه .
وسألوه تقلد الوزارة فتقلدها ثم اتفق تشويش العسكر عليه وأشفقوا على أنفسهم منه فكبسوا داره وأخذوه إلى الحبس وأغاروا على أسبابه وجميع ما يملكه وساموا الأمير قتله فامتنع . وعزل نفسه عن الدولة طلباً لمرضاتهم وتوارى أربعين يوماً ؛ فعاود شمس الدولة القولنج فأحضره مجلسه واعتذر الأمير شمس الدولة إليه بكل عذرٍ واشتغل بمعالجته وأقام عنده مكرماً مبجلاً وأعيد إلى الوزارة ثانياً وسألته أن يشرح لي كتب أرسطو فذكر أن لا فراغ له في ذلك الوقت ولكن إن رضيت مني بتصنيف كتابٍ أورد فيه ما صح عندي من هذه العلوم بلا مناظرة مع المخالفين ولا الاشتغال بالرد عليهم فعلت ذلك فرضيت منه بذلك . فابتدأ بالطبيعيات من كتاب سماه : الشفاء وكان قد صنف الأول من : القانون فكنا نجتمع كل ليلة في دار طلبة العلم وكنت أقرأ من الشفاد نوبة ويقرأ غيري من القانون نوبةً فإذا فرغنا حضر المغنون على اختلاف طبقاتهم وعبئ مجلس الشراب بآلاته وكنا نشتغل به . وكان التدريس بالليل ؛ لعدم الفراغ بالنهار خدمةً للأمير فقضينا على ذلك زمناً . ثم توجه شمس الدولة لحرب أمير الطرم وعاوده القولنج وانضاف إلى ذلك أمراضٌ أخرى جلبها سوء تدبيره وعدم قبول إشارات الشيخ فخاف العسكر وفاته ؛ فرجعوا به وتوفي في الطريق . وبويع ابن شمس الدولة وطلبوا وزارة الشيخ ؛ فأبى عليهم وكاتب علاء الدولة أبا جعفر ابن كاكويه سراً يطلب خدمته والمسير إليه وأقام في دار أبي غالب العطار متولي المهذب فطلبت منه إتمام كتاب الشفاء فطلب الكاغد والمحبرة وكتب في قريب من عشرين جزءاً رءوس المسائل فكتبها كلها بلا كتابٍ يحضره ولا أصلٍ يرجع إليه وفرغ منها في يومين . ثم ترك تلك الأجزاء بين يديه وأخذ الكاغد فكان ينظر في كل مسألة ويكتب شرحها فكان يكتب كل يومٍ خمسين ورقةً حتى أتى على جميع طبيعيات الشفاء والإلهيات ما خلا كتاب : الحيوان . وابتدأ بالمنطق وكتب منه جزءاً . ثم اتهمه تاج الملك بمكاتبة علاء الدولة فحث في طلبه فدل عليه بعض أعدائه وودوه إلى قلعةٍ يقال لها فردجان وأنشد هناك قصيدةً منها : من الوافر .
دخولي باليقين كما تراه ... وكل الشك في أمر الخروج .
وبقي فيها أربعة أشهر ثم قصد علاء الدولة همذان وأخذها وانهزم تاج الملك ثم رجع علاء الدولة عن همذان . وعاد تاج الملك وابن شمس الدولة إلى همذان وحملوا الشيخ معهم إلى همذان . ونزل في دار العلوي واشتغل بتصنيف المنطق من كتاب : الشفاء وكان قد صنف بالقلعة كتاب : الهدايات ورسالة : حي بن يقظان وكتاب : القولنج . وأما الأدوية القلبية فإنما صنفها أول وروده إلى همذان . وتقضى على هذا زمانٌ وتاج الملك يمنيه بمواعيد جميلةٍ .
ثم عن له التوجه إلى أصبهان فخرج متنكراً وأنا وأخوه وغلامان معه في زي الصوفية فقاسينا شدائد إلى أن قربنا من أصبهان فخرج أصدقاؤه وندماء علاء الدولة وخواصه وحملوا إليه المراكب الخاصة والثياب الفاخرة وأنزل في مكان فيه من الآلات جميع ما يحتاج إليه ورسم له في ليالي الجمع بمجالس النظر بين يديه ويحضره العلماء على اختلاف طبقاتهم فما كان يطاق في شيءٍ من العلوم