كان فرد زمانه في بابه وإمام الشعر في أضرابه أول من فتح ذلك الباب أبو نواس وجاء ابن حجاج بعده بالطم والرم وأكثر فأحسن واستوعب الإجادة فأمعن .
وأنا أراه ممن يطلق عليه اسم شاعر ؛ لأنه أجاد في المدح والهجو والرثاء والغزل والوصف والأدب وسائر أنواع الشعر لكنه في المجون إمامٌ وكل من أتى بعده بشيء من ذلك فهو له غلام ولما أتى ابن الهبارية المذكور في المحمدين بعده وأراد يسلك طريقة قصر وكان الأليق به الإمساك عن مجاراته لو تبصر .
وكان حسن الهيئة واللبس والسمت والوقار والسكينة مدح ابن حجاج الملوك والأمراء والوزراء والرؤساء . وديوانه كبير إلى الغاية أكثر ما يوجد في عشر مجلدات ورأيته كثيراً في مجلدين وفي مجلد واحد .
تولى حسة بغداد مرات وأقام بها مدة يقال إنه عزل بأبي سعيد الإصطخري الفقيه الشافعي .
قلت : وهذا لا يستقيم فإن أبا سعيد توفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وابن حجاج توفي سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة بالنيل وحمل إلى بغداد ودفن عند مشهد موسى بن جعفر Bه وأوصى أن يدفن عند رجليه ويكتب على قبره : " وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد " . وكان من كبار الشيعة .
ورآه أحمد بن الخازن في المنام بعد موته فسأله عن حاله فأنشده : من مجزوء الرجز .
أفسد حسن مذهبي ... في الشعر سوء مذهبي .
وحملي الجد على ... ظهر حصان اللعب .
لم يرض مولاي على ... سبي أصحاب النبي .
وقال لي ويلك يا ... أحمق لم لم تتب .
من سب قومٍ من رجا ... ولاء هم لم يخب .
رمت الرضا جهلاً بما ... أصلاك ذات اللهب .
قلت : أشهد أن هذا الشعر نفسه كأنه قاله حياً .
ولما مات رثاه الشريف الرضي بقصيدة من جملتها : من المتقارب .
نعوه على حسن ظني به ... فلله ماذا نعى الناعيان .
رضيع ولاءٍ له شعبة ... من القلب مثل رضيع اللبان .
وما كنت أحسب أن الزمان ... يفل مضارب ذاك اللسان .
بكيتك للشرد السائرات ... تفتق ألفاظها بالمعاني .
ليبك الزمان طويلاً عليك ... فقد كنت خفة روح الزمان .
وقد جمع أخباره أبو بكر محمد بن عبد الله بن حمدون في مجلدة ؛ ذكر في أولها قال : حدثني صديقٌ لي قال : رأيت عند بعض الوراقين جزءاً من هذا الشعر فيه خمسون ورقة فسألته أن يبعينه بما شاء فامتنع وقال لي هذا الجزء في دكاني بمنزلة جارية طيبة الغناء مليحة الوجه في القيان يكتريه حرفاء لي مجانٌ طيابٌ إذا اجتمعوا للشرب بأجرة قد اتفقنا عليها فأستثني عليهم بعد الأجرة أن يتنقصوا لي من مأكلهم ومشروبهم وفاكهتهم بما يحمل إلي مع الجزء إذا ردوه .
وقال : بلغني عمن يقع إليه من طبقات الناس في الأمصار والبلدان البعيدة أنهم يتهمون أبا عبد الله بسخفٍ في دينه ومروءته وضعف عهدٍ في مودته وأمانته وتسلطه على الأعراض برويته وبديهته فإذا أخبرهم من شاهده عما فيه من الفضل والحرية والديانة والمروءة والخفر والحياء والتعلق بالخير والتبري من الشر والرجوع في ذلك إلى أبوته الجليلة وقديمه المشهور وبيته المعروف لم يصدقوه وشكوا في خبره .
وقال ابن حجاج : أعانني على مذهبي أن أبي كان أباع مستغلات له متصلة بدوره فابتاعها قومٌ نقضوها وبنوها خاناتٍ أسكنوها الشحاذين والغرباء السفل وذوي العاهات المكديين وكل دلوك وقطعي من الخلد والربيدية فكنت أسمع في ليالي الصيف خاصةً مشاتمات رجالهم ونسائهم فوق السطوح ومعي دواةٌ وبياضٌ أثبت ما أسمعه فإذا مر بي ما لا أفهمه أثبته على لفظه واستدعيت من غدٍ من قد سمعت منه ذلك وأنا عارف بلغاتهم لأنهم جيراني فأسأله عن التفسير وأكتبه ولم أزل أصمعي تلك البادية مدة .
وقال في سخف شعره : من الوافر .
أيا مولاي هزلي تحت جدي ... وتحت الفضة انحرف اللحام .
وشعري سخفه لا بد منه ... فقد طبنا وزال الاحتشام .
وهل دارٌ تكون بلا كنيفٍ ... يكون لعاقلٍ فيها مقام