كيف لم يسبهم عذارك هذا المدرَّج .
وكان أبو علي القرمطي قد وقَّع في آخر يومٍ من أيام حياته توقيعاً بخطه لم يفهم من ضعف يده فاستثبت فيه فبيَّنه ثم قال ومات من يومه : من الوافر .
رأوا خطّي نحيلاً فاستدلّوا ... به منّي على جسمٍ نحيل .
وقد قوَّيت أسطره بجهدي ... ولكن ما استحال من الذبول .
وكان أبو علي قصيراً ولا يركب من الخيل إلاّ كلَّ جبَّارٍ فكان له كرسيٌ من خشبٍ لطيف يصعد عليه حتى ينال الفرس فيركبه قال صاحب كتاب الإشعار بما للملوك من النوادر والأشعار أنّ أبا عليٍّ الحسن بن أحمد القرمطي قال في بعض الليالي لكاتبه أبي نصر بن كشاجمٍ . ما يحضرك في هذه الشموع ؟ فقال : إنما نحضر مجلس السيّد لنسمع من كلامه ونستفيد من أدبه فقال القرمطي بديهاً : من المتقارب .
ومجدولةٍ مثل صدر القناة ... تعرَّت وباطنها مكتس .
لها فعلةٌ هي روحٌ لها ... وتاجٌ على هيئة البرنس .
إذا غازلتها الصَّبا حرَّكت ... لساناً من الذهب الأملس .
وإن رنقت لنعاسٍ عرا ... وقطَّت من الرأس لم تنعس .
وتنتج في وقت تلقيحها ... ضياءً يجلّي دجى الحندس .
فنحن من النور في أسعدٍ ... وتلك من النار في أنحس .
فقام أبو نصرٍ وقبَّل الأرض وقال : من المتقارب .
وليلتنا هذه ليلةٌ ... تشاكل أشكال إقليدس .
فيا ربَّة العود حثّي الغنا ... ويا حامل العود لا تجلس .
ومن شعر القرمطي أيضاً : من البسيط .
إني وقومي في أحساب قومهم ... كمسجد الخيف في بحبوحة الخيف .
ما علِّق السِّيف منّا بابن عاشرةٍ ... إلا وهمَّته أمضى من السَّيف .
ومنه : من الكامل .
زعمت رجال العرب أني رهبتها ... فدمي إذاً ما بينها مطلول .
يا مصر إن لم أسق أرضك من دمٍ ... يروي ثراك فلا سقاني النيل .
ومنه يردّ على من عيَّره بالقصر : من الخفيف .
زعموا أنني قصيرٌ لعمري ... ما تكال الرجال بالقفزان .
إنما المرء باللسان وبالقلب ... ب وهذا قلبي وهذا لساني .
وكنيته أبو محمدٍ وقيل أبو علي وكان يعرف أيضاً بالقصير الثياب وسيأتي ذكر جدِّه أبي سعيدٍ الحسن بن بهرامٍ القرمطي أصل القرامطة . وذكر سليمان بن الحسن في حرف السّين في مكانه إن شاء الله تعالى .
أبو علي الفارس .
الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان بن أبان الفارسي النحوي أبو علي ولد بمدينة فسا واشتغل ببغداد ودخل إليها سنة سبع وثلاثمئة وكان إمام وقته في النحو ودار البلاد وأقام بحلب عند سيف الدولة بن حمدان مدةً وكان قدومه عليه سنة إحدى وأربعين وثلاثمئة وجرت بينه وبين المتنبي مجالس ثم أنه انتقل إلى بلاد فارس وصحب عضد الدولة بن بويه وتقدَّم عنده وعلت منزلته حتى قال عضد الدولة : أنا غلام أبي علي الفسويّ في النحو وصنف له الإيضاح والتكملة . ويحكى أنه كان يوماً في ميدان شيراز يساير عضد الدولة فقال له : أم انتصب المستثنى في قولنا قام القوم إلاّ زيداً فقال الشيخ : بفعلٍ مقدّر تقديره استثنى زيداً . فقال له عضد الدولة . هلاَّ رفعته وقدَّرت الفعل امتنع زيدٌ ؟ فانقطع الشيخ وقال له : هذا الجواب ميدانيٌ . ثم أنه رجع إلى منزله ووضع له في ذلك كلاماً وحمله إليه فاستحسنه وذكر في الإيضاح أنه انتصب بالفعل المتقدِّم بتقوية إلاّ . وحكى أبو القاسم بن أحمد الأندلسي قال : جرى ذكر الشعر بحضرة أبي علي وأنا حاضر فقال : إني لأغبطكم على قول الشعر فإن خاطري لا يوافقني على قوله مع تحقيقي العلوم التي هي موادّه فقال له رجل : فما قلت قطُّ شيئاً منه ؟ قال : ما أعلم أنَّ لي شعراً إلاّ ثلاثة أبيات في الشيب وهي قولي : من الوافر .
خضبت الشيب لمّا كان عيباً ... وخضب الشيب أولى أن يعابا .
ولم أخضب مخافة هجر خلٍ ... ولا عيباً خشيت ولا عتابا .
ولكنّي خشيت يراد منّي ... عقول ذوي المشيب فلن يصابا