وقد عمل الناس حماسات كثيرة منها حماسة البحتري . والحماسة البصرية . وحماسة الأعلم الشنتمري . وحماسة الشجري . وحماسة ابن أفلح وحماسة البيّاسي . وحماسة شميم الحلّي . وحماسة الجراوي . والحاسة المحدثة لابن عمارس . وحماسة الجصَّاني . وحماسة ابن المرزبان محمد بن خلف .
والناس مختلفون في أمره وأمر المتنبي أيهما أشعر والأذكياء على أن المتنبي أشعر والشيخ أثير الدين مذهبه أن أبا تمام أشعر وفاوضناه يوماً في ذلك فقال بعد ما ذكرنا محاسن المتنبي ومعايب أبي تمام : أنا ما أسمع عذلاً في حبيب فأعجبنا منه ذلك وسكتنا وهذا كان مذهب شيخه بهاء الدين بن النحاس . والذي أقوله أنا إنني اخترت شعر الإثنين فجاء مختار المتنبي ألفاً وستمئة بيت من جملة ستة آلاف بيتٍ وجاء مختار أبي تمام قريباً من ثمانمئة بيت من جملة ثمانية آلاف بيت أو ما حولها ولا شكَّ أنّ من له ألف وستمئة من ستة آلاف أشعر ممن له ثمانمئة من ثمانية آلاف والإنصاف يقضي بذلك لكن أبو تمام متقدم وهو الذي فتح باب البديع وغاص على المعنى الدقيق . ومات وله من العمر ثلاثون سنة وكسورٌ فلو عمِّر عمر المتنبي وتأخر زمانه حتى يرى أقوال من تقدّمه كان أشعر من المتنبي لأن المتنبي تقدّمه فحول من الشعراء مثل أبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز وأمثالهم فأخذ محاسنهم ورأى أنموذج جيدهم فنسج على ذلك المنوال .
وفي أبي تمام قال مخلد بن بكارٍ الموصلي : من السريع .
أنظر إليه وإلى ظرفه ... كيف تطايا وهو منثور .
ويحك من ألقاك في نسبةٍ ... قلبك منها الدَّهر مذعور .
ومدح أبو تمام الخلفاء وأخذ جوائزهم وجاب البلاد وقصد البصرة وبها عبد الصمد بن المعذَّل الشاعر وكان في جماعة من غلمانه وأتباعه فخاف عبد الصَّمد أن يميل الناس إليه ويعرضوا عنه فكتب إليه دخوله قبل دخوله : من الخفيف .
أنت بين اثنتين تبرز للنا ... س وكلتاهما بوجهٍ مذال .
لست تنفكّ راجياً لوصالٍ ... من حبيبٍ أو طالباً لنوال .
أيّ ماءٍ يبقى لوجهك هذا ... بين ذلِّ الهوى وذل السؤال .
فلما وقف أبو تمام على الأبيات أضرب عن قصده ورجع وقال : قد شغل هذا ما يليه فلا حاجة لنا فيه . وقيل إنه لما وقف على الأبيات قلبها وكتب في ظهرها جواباً : من البسيط .
أفيَّ ينظم قول الزور والفند ... وأنت أنقص من لا شيء في العدد .
أشرجت قلبك من غيظٍ على حنقٍ ... كأنها حركات الروح في الجسد .
أقدمت ويلك من هجوي على خطرٍ ... كالعير يقدم من خوف على الأسد .
فلما وقف عبد الصمد على الأول قال : ما أحسن علمه بالجدل أوجب زيادة ونقصاً على معدوم . ولما وقف على الثاني قال : الإشراج من عمل الفراشين ولا مدخل له ههنا ولما وقف على الثالث عضَّ على شفته وقال : قتل .
وقد تنوّع الإخباريون في إيراد هذه الأبيات اللاّمية فتارة يوردونها لابن المعذَّل وتارة يوردونها لبعض الغلمان المردان وأنه طلع تلقَّى أبا تمام وتعرَّض له وأطعمه في نفسه فلما عرَّض له أبو تمام بطلب الوصال أنشده هذه الأبيات فاستحيى أبو تمام وكرَّ راجعاً من حيث أتلى ولم يدخل البلد وتارة يوردونها على غير هذه الصورة . واشتهرت هذه الأبيات بين أهل الأدب حتى قال مجير الدين محمد بن تميم : من الخفيف .
أنت بين اثنتين يا نجل يعقو ... ب وكلتاهما مقرُّ السياده .
لست تنفك راكباً أير عبدٍ ... مسبطرّاً أو حاملاً خفَّ غاده .
أي ماء لحرّ وجهك يبقى ... بين ذل البغا وذل القياده .
وكان أبو تمام أسمر طويلاً حلو الكلام فيه تمتمةٌ يسيرة قيل إن الحسن ابن وهب عني به فولاّه بريد الموصل فأقام به أقلّ من سنتين وتوفي .
ولما قصد أبو تمام عبد الله بن طاهر بن الحسين بخراسان وامتدحه بالقصيدة التي أوّلها : .
هنَّ عوادي يوسفٍ وصواحبه .
أنكر عليه أبو سعيد الضرير وأبو العميثل هذا الابتداء وقالا له : لم لا تقول ما يفهم ؟ فقال لهم : لم لا تفهمان ما يقال ؟ فاستحسن منه هذا الجواب على الفور .
وأنشد أبو تمام لأبي دلفٍ قصيدته التي يمدحه بها وهي : من الطويل .
على مثلها من أربعٍ وملاعبٍ ... أذيلت مصونات الدموع السَّواكب