ولما قبض المقتدر على أبي الحسن ابن الفرات في وزارته الثانية في جمادى الأولى سنة ست وثلاثمئة طلب المقتدر حامد بن العباس وخرج الناس لتلقّيه فدخل بغداد وخلع عليه للوزارة وتوّجه إلى دار ابن الفرات بالمخرّم ونزلها وأمر ونهى . فتوجَّهت أم موسى القهرمانة ونصر الحاجب وشفيع المقتدريّ وابن الحوارى إلى أبي الحسن علي بن عيسى بن الجرّاح وقالوا له : إن أمير المؤمنين ولّى حامد بن العباس الوزارة وإنه ضعيف عن أمرها فاخرج أنت فتقلَّدها قال : لا أفعل . قالوا : فعاونه ودع الإسم يكن له والأمر كلّه لك فأبى فعرّفوا الصُّورة المقتدر فأمر بإجباره على ذلك . فجاء عليُّ بن عيسى فجلس بين يدي حامد فرفعه وجذبه حتى التصق معه فسارّه في مطالبة ابن الفرات بالأموال فقال له عليُّ بن عيسى : أما الأعمال كلها فاعملها للوزير واكفيه أمرها وأمّا مطالبة هؤلاء فالوزير أولى بها وأقدر عليها . فكتب له حامد كتاباً قلده فيه دواوين الخراج والضياع العامّة والخاصة والمحدثة والمقبوضة مع حامد لما وصل بغداد أربعمئة غلام يحملون السِّلاح وتصرَّف علي بن عيسى تصرّف الوزراء واشتغل حامد بن العباس بمطالبة ابن الفرات ووقعت بينه وبين علي بن عيسى المشاجرات والمناظرات في الأموال فقال بعض الشعراء : من مخلع البسيط .
أعجب من كلّ ما تراه ... أنّ وزيرين في بلاد .
هذا سوادٌ بلا وزير ... وذا وزيرٌ بلا سواد .
فما رأينا كذين مثلاً ... ولا تراه إلى التناد .
واستخرج حامد بن العباس من ابن الفرات ألف ألف دينار وعذبه بأنواع العذاب . ولما فرغ من المصادرة بقي بلا عمل إلاّ إسم الوزارة والركوب يومي الموكب بسواد وسقطت حرمته عند المقتدر وبان عجزه فأفرد علي بن عيسى بالأمور كلها وبطل حامد بن العباس لا يأمر في شيء ولا ينهى . فاستأذن حامد المقتدر في ضمان السّواد وأصبهان وبعض نواحي المغرب بمالٍ عقده على نفسه ونجَّمه فأمضاه المقتدر وتوّجه حامد إلى نواحي ضمانه وأقام بواسط فقال بعض الشعراء : من الرجز .
أنظر إلى الدهر ففي عجائبه ... معتبرٌ ينسيك عن نوائبه .
ويوئس العاقل من رغائبه ... حتى تراه حذراً من جانبه .
مستوحشاً من إلفه وصاحبه ... صار الوزير عاملاً لكاتبه .
يأمل أن يرفق في مكاسبه ... لسيتدرَّ النفع من مطالبه .
ولم يزل الحال كذلك أربع سنين وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يوماً إلى أن تولّى ابن الفرات الوزارة الثالثة . وأحضر حامد بن العباس إلى بغداد وتسلمه وقبض عليه فأخذ منه أموالاً عظيمة إلى الغاية ثم سلمه إلى ابنه المحسّن فعذَّبه وأنزل به المكاره إلى أن لم يبق له غير ضيعة بواسط فنفذه إلى هناك فاشتهى في الطريق بيض نيمرشت فوضع له فيها سمّ فلما حساه مات في ثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة إحدى عشرة وثلاثمئة بالإسهال . ولمّا سلّم إلى المحسِّن بن الفرات كان يخرجه إذا شرب فيلبسه جلد قردٍ له ذنبٌ ويقيم من يرقصه ويصفعه وهو يشرب على ذلك وفعل به مع العذاب كل قبيح . ولما مات جعل الناس يصلون على قبره بواسط أياماً متوالية ثم إنه استخرج من قبره بعد ابن الفرات وحمل إلى بغداد ودفن في مقبرة تعرف به بالجانب الغربي . وكان C لما اشتدت به المطالبة والعذاب قد دلّهم على المستراح المقدّم ذكره فأخذه منه أربعمئة ألف دينار . وحامد بن العبّاس هو الذي تولّى مناظرة الحلاّج في أيامه وخاطب المقتدر في قتله وصله كما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة الحلاّج .
أبو غانم الدُّهلي .
حامد بن فارس بن الحسين أبو غانم الدُّهلي كان متأدباً يقول الشعر أورد له محب الدين بن النجار : من الطويل .
سقى الله أعلام اللوى حين تبرق ... وجاد أعاليها السّحاب المروَّق .
ولا برحت غرُّ السحاب تصونه ... وريح الصَّبا في حافتيه تصفِّق .
عهدت به والدهر يجمع شملنا ... غزالاً إليه للقلوب تشوّق .
ويابانة الوادي ببطحاء مكةٍ ... عليك سلامي كلما لاح رونق .
فقلبي إلى تلك الديار وأهلها ... يروح ويغدو هائماً يتملّق .
قلت : شعر نازل وتواف غير متمكنة