- روى مسلم مرفوعا : [ [ أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ] ] .
وروى الإمام أحمد والبزار واللفظ له وأبو يعلى والحاكم وقال صحيح الإسناد : [ [ أن رجلا قال يا رسول الله أي البلدان أحب إلى الله وأي البلدان أبغض إلى الله تعالى ؟ فقال لا أدري حتى أسأل جبريل فأتاه فأخبره جبريل أن أحب البقاع إلى الله المساجد وأبغض البقاع إلى الله الأسواق ] ] . وفي رواية " فقال جبريل لا أدري حتى أسأل ميكائيل " . فذكره رواها الطبراني وابن حبان في صحيحه .
وفي رواية للطبراني : [ [ أن رسول الله A قال لجبريل أي البقاع خير ؟ قال لا أدري قال فسل عن ذلك ربك D فبكى جبريل عليه السلام وقال : يا محمد ولنا أن نسأله هو الذي يخبرنا بما شاء فعرج إلى السماء ثم أتاه فقال خير البقاع بيوت الله في الأرض فقال أي البقاع شر فعرج إلى السماء ثم أتاه فقال شر البقاع الأسواق ] ] .
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعا : [ [ يقول الله D سبعة يظلهم الله في ظله ] ] فذكر منهم [ [ رجل تعلق قلبه بالمساجد ] ] .
وروى الترمذي واللفظ له وقال حديث حسن وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم وقال صحيح الإسناد مرفوعا : [ [ إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ] ] .
وروى ابن أبي شيبا وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما وغيرهم مرفوعا : [ [ ما توطن رجل المساجد للصلاة والذكر إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم إذا قدم عليهم ] ] .
قلت فتأمل قوله E للصلاة وللذكر أي ليس مقصوده بالجلوس في المسجد إلا ذلك فلا يتبشبش تعالى لمن جلس للغو أو لعلة أخرى وكذلك القول في قوله في الحديث السابق فيمن اعتاد المسجد محمول على ذلك أيضا وكذلك جميع الأحاديث الآتية إذ لا يكون الترغيب في شيء إلا إن سلم من الآفات ويستنبط من تبشبش الحق أي تبسمه كما يلي بجلاله لمن دخل بيته أنه يستحب للعبد أن يبتسم لضيفه إذا ورد عليه تأنيسا له وإدخالا للسرور عليه . والله أعلم .
وروى ابن خزيمة مرفوعا : [ [ ما من رجل كان توطن المسجد فشغله أمر أو علة ثم عاد إلى ما كان إلا تبشبش الله إليه ] ] الحديث .
وروى الطبراني مرفوعا : [ [ إن عمار بيوت الله هم أهل الله D ] ] .
وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ من ألف المسجد ألفه الله ] ] .
وروى الإمام أحمد والحاكم وفي سنده ابن لهيعة مرفوعا : [ [ جليس المسجد على ثلاثة خصال أخ مستفاد أو كلمة محكمة أو رحمة منتظرة ] ] . والله تعالى أعلم .
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله A ) أن نطيل الجلوس في المسجد ونخفف الجلوس في السوق ولكل منهما شروط فشروط الجالس في المسجد أن تكون حركاته وسكناته وخواطره كلها محمودة فإن لم تكن كذلك فمن الأدب تخفيف الجلوس لأنه ما دام في المسجد فهو جالس بين يدي الله تعالى شعر أو لم يشعر ومن لم يجالس الملوك بالأدب أسرع إليه العطب .
وقد كان سيدي محمد الشويمي تلميذ سيدي مدين لا يتجرأ أحد يجالس سيدي مدينا بحضرته فكان كل من خطر بباله خاطر قبيح بين يدي سيدي مدين يقوم بضربه بالعصا ضربا مبرحا فإذا كانت هذه حضرة مخلوق وقد أقيم فيها هذا الميزان فكيف بالحق جل وعلا .
قلت : وهذا الأمر قد غلب على غالب الناس المقيمين في المسجد من المجاورين والجالسين فيه ومن المترددين فيجلسون ويجرون قوافي الناس من العلماء والصالحين والولاة والقضاة والشهود والظلمة والتجار ويذكرونهم بالنقائص في حضرة الله تعالى D فمثل هؤلاء كالبهائم بل البهائم أحسن حالا منهم .
ومن هنا كان سيدي علي الخواص C لا يدخل المسجد إلا عند قول المؤذن حي على الصلاة فحينئذ يأتي المسجد فقيل له : ألا تأتي المسجد مرة قبل الوقت ؟ فقال : مثلنا لا يصلح لإطالة الجلوس في حضرة الله تعالى فنخاف أن نأتي لنربح فنخسر فينبغي لكل مؤمن مراعاة الأدب في المسجد فإنه بيت الله الخاص ولا يبادر قبل الوقت إلا إن علم من نفسه القدرة على كف جوارحه الظاهرة والباطنة من كل مذموم حتى من سوء الظن بأحد من المسلمين حتى بالاهتمام العظيم بأمر الرزق والمعيشة فإن ذلك من أقبح الصفات لما فيه من رائحة الاتهام بالحق تعالى بأنه يضيعه وهو تعالى يرزقه من حين كان في بطن أمه حتى ضربه الشيب .
قال سيدي علي الخواص وعلى الجالس أيضا في المسجد أمور .
منها أن لا يسأله أحد بالله شيئا ويقول لا ولو طلب منه عمامته أو جوخته أو جميع ما في داره وخلوته إلا إن كان يطلب ذلك تعنتا أو امتحانا . ومنها أن لا يمشي في المسجد بتاسومة أو حلفاية إلا لعذر شرعي من جرح أو مرض أو برد شديد أو حر شديد .
ومنها أن يشغل نفسه بالعبادة مع مداومة الطهارة فلا يجلس فيه لحظة واحدة وهو محدث ومنها أن لا يخطر في باله أنه خير من أحد المسلمين فإن هذا ذنب إبليس الذي أخرج من حضرة الله من أجله ولعن وطرد وهذه أمهات الآداب وكل أدب له فروع .
( وأما شروط الجالس في السوق ) فإن لا يشغله البيع والشراء عن ذكر الله تعالى .
ومنها عفة البصر عن زبونات جاره وأن لا يخطر في باله سوء الظن به ولا حسد له .
ومنها أن لا يعتمد في رزقه على البيع والشراء بل يجعل ذلك امتثالا لأمر الله تعالى وهو معتمد على الله تعالى فإن الله تعالى يخلق البركة في الرزق والغنى عن الناس عند الحرفة لا بالحرفة ونظير ذلك ما قالوا في الطعام والشراب من أنه تعالى يخلق الشبع والري عند الأكل والشرب لا بالأكل والشرب .
وسمعت سيدي عليا الخواص C يقول متى فرق الرجل بين الجلوس في بيته والجلوس في السوق فهو معتمد على غير الله وذلك معصية .
وقد كان سيدي علي الخواص Bه إذا فتح حانوته يقول بسم الله الفتاح العليم نويت نفع عبادك يا الله ثم يجلس بحضور مع الله تعالى حتى ينصرف .
ومنها أن يغض بصره عن رؤية النساء ولا يستلذ قط بكلام امرأة فمتى استحلاه ومال قلبه إليها كان جلوسه في السوق معصية .
ومنها أن ينشرح لكل يوم لا يبيع به شيئا أكثر من يوم يبيع فيه كثيرا تقديما لمراد الحق تعالى على حظ نفسه والآداب في ذلك كثيرة . والله تعالى أعلم .
فعلم أنه لا ينبغي لفقير أن يقول " هنيئا للتاجر الفلاني أو الصنايعي الفلاني الذي يأكل من كسبه " حتى يعرف سلامته من الآفات وكذلك لا ينبغي لتاجر أو صنايعي أن يقول هنيئا للفقير الفلاني المجاور في المسجد الفلاني أو الحرم المكي أو المدني أو بيت المقدس حتى يراه سلم في ذلك من الآفات التي تطرق الفقير أو التاجر مثلا مما ذكرنا ومما لم نذكره هذا يقع فيه كثير ممن ينظر إلى ظواهر الأمور دون بواطنها وعواقبها ولذلك كان من شرط الفقير أن لا يحمد أحدا من الفقراء الصادقين ولا تاجرا حتى يراه قد جاوز الصراط ودخل الجنة .
وقد كنت أسمع العلماء والتجار يقولون عن شخص أقام بمكة هنيئا لفلان أقام بمكة على خير واستراح من الدنيا فلما سافرت ورأيته بعين النصيحة وجدته على أسوأ حال منها أنني رأيته لا كسب له وإنما نفسه ناظرة لما في أيدي الخلق وكلما مال إلى أخذ شيء من أحد ولم يقسم له منه شيء يصير يهجوه في المجالس بالكلام المؤذي فإما أن تصير الناس يعطونه خوفا من لسانه وإما أن يعاديهم ويقاطعهم و والله أن بعض الناس الذين يؤذيهم لو عرض عليه أعمال هذا الشخص طوال عمره بمكة يوم القيامة أن تكون في مقابلة غيبة واحدة ما رضي بها في غيبته بتقدير أن الإخلاص وجد في تلك الأعمال وأما إذا دخلها رياء أو سمعة فهي حابطة من أصلها لم يقبلها الله تعالى فليس له أعمال يعطى منها أحد حقه .
وسمعت سيدي عليا الخوص C يقول لشخص من العلماء أراد الحج : إياك يا أخي أن تجاور في مكة أو المدينة فتعجز عن القيام بأدائها فيصدق عليك المثل السائر حججت ومعك خرج زاد فرجعت وفوق ظهرك ألف خرج أوزار أي لأن تبعات كل شخص ممن تستغيبهم تجعل وحدها يوم القيامة فكأنها خرج وحدها فقال له يا سيدي اسمحوا لي بالمجاورة فقال لا أسمح لك إلا إن كنت تدخل على شروط فقال له وما الشروط فقال الشيخ : منها أنك لا تدخر قط فيها قوتا ولا دراهم مدة إقامتك بها ومنها أنك لا تأكل قط طعاما وحدك وأنت تعلم أن فيها أحدا جائعا في ليل أو في نهار ومنها أن تلبس الهدوم الخليقات ولا تلبس شيئا قط من الثياب الفاخرة بل تبيعها وتنفقها على الفقراء الجياع ومنها أن لا تحن مدة إقامتك إلى رجوعك إلى بلدك أبدا ولا تشتاق إلى دار ولا إلى ولد ولا إلى وظيفة ولا إلى إخوان في غير مكة لأنك في حضرة الله الخاصة وهو لا يأخذ منك إلا قلبك وقلبك خرج من حضرته فبقيت في حضرته جسما بلا قلب فإيش في هذا طيب ؟ ومنها أن لا يطرقه مدة إقامته هلع ولا رائحة اتهام للحق تعالى من أمر رزقه ولا يخاف أن يضيعه أبدا لأن أهل حضرة الله تعالى لا يجوز لهم ذلك بل ربما مقت صاحب الاتهام وطرد من حضرة الله تعالى لسوء أدبه وضعف يقينه وهو يرى الحق تعالى يطعمه ويسقيه في حين كان في بطن أمه إلى أن شابت لحيته وهذا من أقبح ما يكون مع أن تلك الأرض تعطي ساكنها بالخاصية الهلع والاتهام للحق في أمر الرزق حتى لا يكاد يسلم من ذلك إلا أكابر الأولياء قال : ومن هنا كره الأكابر الإقامة بمكة ومنها أن لا يخطر في نفسه مدة إقامته هناك معصية أبدا ولو تعذر الوقوع من مثله فكيف بقريبه الوقوع ومن هنا سافر الأكابر من الأولياء بنسائهم وتكلفوا مؤونة [ أي : مشقة ] حملهم لأجل ذلك .
وكان الشعبي يقول : لأن أقيم في حمام أحب إلي من أن أقيم بمكة وكان يقول لأن أكون مؤذنا بخراسان أحب إلى من أن أقيم بمكة خوفا أن يخطر في نفسي إرادة ذنب ولو لم أفعله فيذيقني الله من عذاب أليم لقوله تعالى : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } .
وهذا خاص بالحرم المكي فهو مستثنى من حديث : [ [ إن الله تعالى تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل ] ] الحديث .
وقد قالوا لابن عباس لما سكن الطائف لم لا تقيم بمكة ؟ فقال لا أقدر على حفظ خاطري من إرادة ظلمي للناس أو ظلمي لنفسي فكيف لو وقعت في الفعل فإن الله تعالى لم يتوعد أحدا على مجرد إرادته السوء دون الفعل له إلا بمكة اه .
فقال الشخص " يا سيدي التوبة عن المجاورة " وحج ولم يجاور .
وقد أخبرني سيدي محمد بن عنان أن أولياء العصر حجوا مع سيدي أبي العباس الغمري نفعنا الله ببركاته وكانوا خمسة عشر وليا من مصر وقراها فقالوا له يا سيدي : دستوركم نجاور في مكة أو المدينة ؟ فقال : من قدر منكم على أدب مكة أو المدينة فليجاور فقالوا له وما أدب مكة ؟ فقال : أن يكون على صفات أهل حضرة الله من الأنبياء والأولياء والملائكة ولا يطرق سريرته قط شيء يكرهه الله مدة إقامته بها فكيف إذا فعل ما يكرهه الله فقالوا له ما أدب المدينة ؟ فقال : هو كأدب مكة ويزيد عليها أنه لا يخالف سنة رسول الله A في جميع أحواله حتى إنه يصغر عمامته ويتصدق بكل شيء دخل يده ولا يلقي في المدينة درسا إلا بما صرحت به الشريعة دون ما فيه رأي أو قياس أدبا معه A أن يكون لغيره كلام في حضرته إلا بمشاورته فإن كان من أهل الصفاء فليشاوره A في كل مسألة فيها رأي أو قياس ويفعل بما أشار به A بشرط أن يسمع لفظه A صريحا يقظة كما كان عليه الشيخ محيي الدين بن العربي C قال : وقد صححت منه A عدة أحاديث قال بعض الحفاظ بضعفها فأخذت بقوله A فيها ولم يبقى عندي شك فيما قاله وصار ذلك عندي من شرعه الصحيح أعمل به وإن لم يطعني عليه العلماء بناء على قواعدهم .
فقال المشايخ كلهم : ما منا أحد يقدر على ما قلتم ورجعوا كلهم تلك السنة مع سيدي أبي العباس وكان من جملتهم سيدي محمد بن داود وسيدي محمد العدل وسيدي محمد أبو بكر الحديدي والشيخ علي بن الجمال والشيخ عبدالقادر الدشطوطي .
وأخبرني شيخي الشيخ أمين الدين إمام جامع الغمري وكان حاجا معهم : أن سيدي عبدالقادر الدشطوطي لم يدخل الحرم المدني وإنما ألقى خده على عتبة باب السلام من حين دخل الحج للزيارة حتى رحلوا وحملوه وهو مستغرق فما أفاق إلا في مرحلة أبيار علي Bه .
فتأمل يا أخي في أحوال أهل الأدب مع الله تعالى وأنبيائه في جلوسهم في المساجد أو الأسواق واقتدي بهم وتقدم قبل هذا العهد بإثني عشر عهدا زيادة على هذا فراجعها والله يتولى هداك