- روى الطبراني والبيهقي مرفوعا : [ [ تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم فإنه من كانت الدنيا أكبر همه أفشى الله ضيعته وجعل فقره بين عينيه ] ] . وفي رواية لابن ماجه بإسناد صحيح مرفوعا : [ [ من كانت الدنيا أكبر همه فرق الله عليه ضيعته ] ] . أي أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له وفي رواية لابن حبان في صحيحه مرفوعا : [ [ إنه من تكن الدنيا همته يجعل الله تعالى فقره بين عينيه وشتت عليه ضيعته ] ] . أي فرق عليه حاله وصناعته ومعاشه وما هو مهتم به وشعبه عليه ليكثر كده ويعظم تعبه . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من كانت الدنيا همته حرم الله عليه جواري فإني بعثت بخراب الدنيا ولم أبعث بعمارتها ] ] . وروى البيهقي وغيره مرفوعا : [ [ من انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها ] ] . وفي رواية للحاكم والبيهقي مرفوعا : [ [ من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه ومن تشعبت به الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا أهلكه ] ] . وفي رواية لابن ماجه مرفوعا : [ [ من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه ومن تشعبته الهموم أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك ] ] . وروى في بعض الكتب الإلهية أن الله تعالى قال : [ [ يا دنيا من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه ] ] . رواه أبو نعيم وغيره . وروى الطبراني مرفوعا : [ [ من أصبح وهمه الدنيا فليس من الله في شيء ] ] . وفي رواية له أيضا مرفوعا : [ [ من أصبح حزينا على الدنيا أصبح ساخطا على ربه D ] ] . والله تعالى أعلم .
- ( أخذ علينا العهد العام من رسول الله A ) أن لا نهتم بتحصيل الدنيا كل الاهتمام ولا نقبل عليها كل الإقبال وإنما يكون ذلك بقدر الضرورة لا غير .
وهذا العهد لا يقدر على العمل به إلا من سلك على يد شيخ ناصح وسافر به حتى أشرف على شهود دار البقاء بعين بصيرته ونظر ما فيها من النعيم المقيم والمعيشة الواسعة الهنيئة حتى كأنها رأى العين وهناك يزهد في دار الفناء .
وإيضاح ذلك أن الإنسان إذا كان عنده شيء نفيس لا يصح له أنه يتركه اختيارا إلا لوجود ما هو أنفس منه كما إذا كان حاملا في برية خرج فلوس جدد فرأى كوم فضة فإنه يصب ذلك الخرج ويملأه فضة فإذا سافر بالخرج الفضة ورأى كوم ذهب فإنه يصب الفضة ويملأ خرجه ذهبا وما دام لم يجد ما هو الأنفس فهو بخيل بما معه لا يتركه إلا إن وقاه الله شح نفسه .
ووقد ذكرنا في عهود المشايخ في كتاب البحر المورود أن العهود أخذت علينا إذا مررنا على أتلال الذهب أو الفضة من غير مزاحم عليها في الدنيا ولا تبعة علينا بها في الآخرة أن لا نأخذ منها إلا قدر قوتنا ذلك اليوم أو قضاء ديننا وأنه إذا دخلت لنا بغلة محملة ذهبا إلى دارنا من مطلب مثلا لا نأخذ منها دينارا بل نخرجها بحملها ونغلق باب دارنا احتياطا لأنفسنا أن ينقص نعيمها في الآخرة وقد ذكرنا فيه أن الفقراء ما تميزوا عن غيرهم إلا بتركهم الدنيا اختيارا لا اضطرارا فإن التارك الدنيا اضطرارا هو والعوام سواء .
فاعلم أن من دسائس النفس على العبد أن توسوس له بالاهتمام بالدنيا والسعي لها وتقول له هذا سعي على العيال لا لنفسك والسعي على الغير من العيال مطلوب وإنما الذم لو سعيت لنفسك فيصير يسعى ويهتم ويجمع في حجة العيال وهو يدخر ذلك حتى صار عنده الألف دينار وعياله على ما هم عليه من الضيق لم يوسع عليهم شيئا وهذا العهد قد كثرت خيانته من غالب فقراء هذا الزمان حتى صاروا يسافرون من مصر إلى الروم في طلب الدنيا ولو أن بعض المريدين فعل ذلك لعيب عليه فكيف بالشيخ .
وقد عرضوا على سيدي علي الخواص C أن يجعلوا له مسموحا فأبى وقال هذا مال لا ينبغي أن يكون إلا لعسكر السلطان الذين يسافرون في التجاريد وأما الفقير الجالس منا في بيته أو في زاويته فلا ينبغي له أن يأخذ من ذلك درهما واحدا وكذلك عرضوا علي بحمد الله نحو أربعة آلاف دينار أوصى بها لي قاضي اسكندرية فرددتها احتياطا لنفسي من أكل مال القضاة والشبهات التي لم تقسم لي وخوفا عليها من ميلها إلى جميع الدنيا فالحمد لله على ذلك .
وقد سافر شخص من فقراء مصر المحروسة إلا بلاد الروم فاجتمع باياش باشاه الوزير فقال له ما جاء بك إلى بلادنا فقال أطلب شيئا من مال السلطان يقوم بعيالي فقال له وما حرفتك فقال أدل الناس على الله تعالى فقال له أف عليك أيها الشيخ كيف تسافر في سن الشيخوخة من مصر إلى هنا تطلب الدنيا أما كان في مصر وقراها ما يكفيك مع أنك ترى ربك وهو يرزقك أنت وعيالك من حين ولدت إلى أن صارت لحيتك بيضاء لم يقطع بك يوما واحدا فإذا كنت وأنت في هذا السن لم تثق بضمان الله لرزقك ولم تطمئن نفسك إلى قوله تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } . فبالله عليك أين معرفتك بالله حتى تدل الناس عليه فما درى الشيخ ما يقول ورجع إلى مصر نادما هذه حكاية صاحب الواقعة لي بنفسه .
وسمعت سيدي عليا الخواص C يقول يجب على من تصدر للمشيخة والشفاعات عند الحكام أن لا يقبل منهم هدية ولا برا ولا حسنة ولو كان ذلك حلالا من أصله فإن من قبل من الولاة شيئا هان في أعينهم وردوا شفاعته لكونه صار معدودا من عيالهم فهو ولو كان معه سر لا يصلح له أن يؤثر فيمن يعوله ويطعمه ويكسوه ولا يستجيب الله له فيه دعاء ولو دعا عليه وهذا الأمر قد عم غالب الفقراء فبطلت شفاعتهم عند الحكام وعدموا تفريج كرب المكروبين .
فاترك أيها الشيخ الدنيا والاهتمام بشأنها ولا تكن متهما لربك وما قسمه الله تعالى لك لا بد أن يأتيك ولو تركته ولا يخرج عنك والله يتولى هداك